على الناحية الأخرى، كانت معظم تصريحات ترامب عن مسؤوليات أمريكا في تحقيق الأمن في عديد الأقاليم،
ما هي إلّا أيام قليلة، وتبدأ حلقة جديدة في حلقات أحدث مسلسل للفن الواقعي، المسلسل الذي اختار دونالد ترامب أن يلعب فيه دور البطولة. تبدأ الحلقة الجديدة بانتقال العائلة من أبراج ترامب وقصوره إلى البيت الأبيض، لتتولى من هناك إدارة أحدث مشروعاتها العقارية، مشروع بحجم الولايات المتحدة، وباتساع الكوكب. لا مبالغة في هذا الوصف لطبيعة المرحلة الجديدة في التاريخ الدبلوماسي الأمريكي، بالنظر إلى القلق الواضح الذي أصبح يهيمن في عواصم عديدة، وإلى المناقشات الصريحة الدائرة حالياً في الدوائر الدبلوماسية وأجهزة صنع السياسة الخارجية، والسعي في داخل هذه الدوائر والأجهزة لاكتساب مهارات التعامل مع أسلوب الصفقات في إدارة العلاقات بين الدول، وتجاهل الجوانب الأخلاقية والإيديولوجية.
حدثان لفتا نظر محللين وبعض الحيارى من المعلقين المختصين في السياسات الخارجية للدول. لفت نظرهم السرعة الفائقة، التي جاء بها رد فعل أعلى أجهزة صنع السياسة الخارجية المصرية على فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية. قيل في تحليل وتبرير هذه السرعة في صدور رد الفعل المصري، وبهذه الدرجة من الثقة في النفس، وفي القرار وفي سرعة اتخاذه، إن الأجهزة المصرية لابد أنها توصلت في روسيا لمعلومات مؤكدة عن الاتجاهات الحقيقية للرئيس الجديد، وهي معلومات بلاشك مختلفة عن اتجاهات كثيرة في الخطاب الانتخابي. قيل أيضاً في تحليلات أخرى ليست بعيدة عن هذا التحليل أن هذه الأجهزة المصرية، ربما تكون قد حصلت على تطمينات، وليس فقط معلومات من الأجهزة العليا الروسية، باعتبار ما تسرب وتأكد عن تدخل متشعب من الجانب الروسي في الحملة الانتخابية للرئاسة الأمريكية، واختراق للجماعة المحيطة بالمرشح الجمهوري.
جاءت المفاجأة الثانية من اليابان. لم تمض ساعات على إعلان الفوز والتهنئة المصرية بهذا الفوز إلّا وكانت طوكيو تعلن أن رئيس وزرائها استقل بالفعل طائرة متوجهاً إلى الولايات المتحدة ليلتقي الرئيس المنتخب. لم يذهب ليهنئ، ولكن ذهب ليفهم حتى يطمئن أو ليعد عدته لنمط جديد من علاقات التحالف بين البلدين. تراءى لمعلقين ومحللين مخضرمين أن المسؤول الياباني ما كان ليغادر طوكيو، ويطلب اجتماعاً عاجلاً مع شخص، بالكاد، ظهرت نتائج ترجح فوزه إلّا لو أن لديه ولدى اليابان ما يسبب قلقهما، وأنهما لم يتعرفا بالدقة الواجبة على نواياه، وبخاصة تجاه قضية التحالفات العسكرية، ومسألة احتواء الصين وموضوعات التجارة الدولية والحماية الجمركية. أقصى ما يمكن أن تتوصل إليه الاجتهادات في هذه المرحلة المبكرة في عملية انتقال السلطة في عاصمة بأهمية واشنطن، هو أن الفرق بين الحدثين، مفاجأة التهنئة المبكرة للغاية من الرئيس المصري، ومفاجأة رحلة الزعيم الياباني إلى أمريكا للاجتماع بالرئيس المنتخب، هو الفرق بين حجم ونوع القضايا ذات الأولوية في علاقة كل من الدولتين بالولايات المتحدة، من وجهة نظر حكومتيهما، ونوايا دونالد ترامب تجاههما.
كان ترامب، على امتداد حملته الانتخابية، واضحاً في نيته عدم التدخل في شؤون وأساليب الحكم في الدول الأخرى. أعلن أنه لن يستمر على نهج الرئيسين، بوش الابن وباراك أوباما، اللذين فرضا درجة أو أخرى من الالتزام بأخلاقيات تحترم القواعد الدستورية والقانون وتداول السلطة سلمياً والمشاركة في الحكم وممارسة الحريات وتمكين الأقليات والنساء. لا جدال في أن هذا النهج ظل مصدر إزعاج لكثيرين من حكام العالم النامي وكذلك حكام شرق أوروبا والصين وروسيا وجماعة الحكم العسكري في تايلاند وميانمار. لا يخالجني أدنى شك في أن الرئيس ترامب، القادم لتوه من أسواق العقارات والمنشغل حتى قمة شعره بعقد الصفقات، سوف يطالب هؤلاء الحكام في أول فرصة تُسنح له بتسديد نصيبهم في هذه الصفقة، أي مساعدته في تحقيق هدف استعادة «عظمة أمريكا»، حسب تعبيره.
على الناحية الأخرى، كانت معظم تصريحات ترامب عن مسؤوليات أمريكا في تحقيق الأمن في عديد الأقاليم، وعن تكاليف الدفاع عن الدول الحليفة، وعن هجرة الاستثمارت الأمريكية إلى الخارج، وعن مستقبل علاقات بلاده بالدول والشركات المصدرة والمنتجة للطاقة، هذه وغيرها من التصريحات الملتهبة تسببت في نشر القلق وعدم التأكد في دول عديدة.
لا أتوقع أن تكون مسيرة التغيير في السياسة الخارجية الأمريكية سهلة، على وقع أقدام ترامب الثقيلة وتقلباته المزاجية ومواقفه المتمردة على الطبقة الحاكمة. تزداد توقعاتي بصعوبة المسيرة مع كل توتر جديد يصيب العلاقات بين أطراف حلف الأطلسي، وهي أصلاً متوترة، ومع كل انحدار جديد تتدنى إليه المكانة الأمريكية وهي أصلاً متدنية، ومع كل درجة تصعدها روسيا على سلم «الإمبراطورية» والتوسع، ومع كل فوز جديد تحققه الأحزاب والتيارات اليمينية المتطرفة في أوروبا، ومع كل زعيم في إفريقيا والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية تحلو له إقامة نظام شعبوي على أطلال أو هياكل ديمقراطية، ومع كل انفراط جديد أو تآكل يصيب النظام العربي الشرق أوسطي، ومع كل دعم جديد تحصل عليه تنظيمات الإرهاب العربي والإسلامي.
سمعت من متابعي مسلسلات تلفزيون الواقع ونقاد الشاشة الصغيرة أن أكثر مشاهديها لا ينتمون إلى مستويات ثقافية أو أخلاقية طيبة، وأنهم، مثل ترامب نفسه، يكثرون من استخدام العبارات السوقية والخارجة عن آداب اللياقة والمؤذية للصحة النفسية للأطفال. سمعت أيضاً عن أن مدمني تلفزيون الواقع انتهوا مدمنين للكذب. أنا شخصياً لا أنكر انبهاري بقدرة الرئيس المنتخب على الكذب، كما كشفت عنها الحملة الانتخابية. والآن وقد استعد لدخول البيت الأبيض رئيساً للولايات المتحدة لا أنكر قلقي على مصير مرحلة في العلاقات الدولية كانت لها إيجابياتها.
*نقلا عن الخليج
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة