يبدو أن المشرع الأمريكي (الكونغرس) في وضع سياسي حرج هذه الأيام.
فهو عالق بين ادعاء حكومته بأنه حامي الحريات في العالم وبين مخاوف من تهديدات تطبيق "تيك توك" على الأمن الوطني الأمريكي. وبالتالي فهو يعيش حالة متناقضة بين ادعاءاته وسلوكياته التشريعية، ما يثير العديد من التساؤلات حول مصداقيته أمام الرأي العام العالمي، وحقيقة الحريات إن كانت مطلقة أم أنها نسبية ويتم توظيفها لأهداف سياسية.
فقد اتخذ مجلس النواب الأمريكي، مؤخراً، خطوة متقدمة في الحرب الدائرة بين الولايات المتحدة والصين في الفضاء الإلكتروني، إذ أقر مشروع قانون يتيح حظر تطبيق "تيك توك"، ما لم تتخلّ الشركة الصينية "بايت دانس" عن ملكية التطبيق خلال ستة أشهر.
وسينتقل مشروع القانون إلى مجلس الشيوخ الأمريكي خلال هذا الأسبوع لمناقشته، والتصويت على إصداره، وإن كان الأمر يبدو من الصعب تمريره بعدما أثيرت حالة اعتراض عامة من مستخدمي التطبيق والبالغ عددهم (170) مليون مشترك أمريكي.
ما نراه أننا أمام مرحلة جديدة ومتقدمة من الصراع الأمريكي-الصيني حول السيطرة على العقول والأفكار، فيما يعرف في الدوائر الرسمية الأمريكية "حرب العقول والقلوب"، حيث يجري استخدام التكنولوجيا والأدوات الناعمة للقوة في العالم الافتراضي، وتحديداً باستخدام برامج الهواتف والحواسيب، في التأثير على اتجاهات الرأي العام للجمهور أو المجتمع المستهدف.
ويبقى المثير للاستغراب والتساؤل في الوقت نفسه، أن الرئيس الأمريكي جو بايدن، أعلن أنه سيوقع مرسوماً بحظر "تيك توك" فور إقرار القانون في مجلس الشيوخ مع أنه دشن في فبراير/شباط الماضي حساباً له على تطبيق "تيك توك"، وذلك في سياق حملته الانتخابية الرئاسية، بهدف مخاطبة شرائح محددة من الناخبين الأمريكيين، منهم الشباب.
أي أن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، الذي يؤيد حظر تطبيق إلكتروني صيني متهم بالتلاعب بالرأي العام الأمريكي والتأثير الموجه على بعض فئات المجتمع الأمريكي، استخدم ووظف التطبيق نفسه، للتأثير على اتجاهات ومواقف بعض فئات المجتمع واستقطابها لصالحه انتخابياً.
إن هذا التناقض الأمريكي، يعني أحد أمرين: إما عدم صحة الاتهامات الموجهة للصين بتوظيف تلك التكنولوجيات لأغراض سياسية مضادة للولايات المتحدة، وإما أنها صحيحة، لكن ليس لدى بايدن والحزب الديمقراطي الأمريكي مانع من اتباع نفس النمط الانتهازي، وتوظيف التكنولوجيات الصينية التي تؤثر في الشعب الأمريكي، لمصالح سياسية انتخابية داخلية. وفي هذه الحالة تكون واشنطن تمارس ازدواجية المعايير صراحة وعلناً وبكل جرأة.
النقطة البارزة في هذا الصراع هو التناقض والازدواجية في المعايير الغربية والأمريكية. فما يحدث إلى الآن هو تأكيد لحقيقة متفق عليها وهي: أن الحريات في معظم الدول الغربية ليست مطلقة، خصوصاً في الولايات المتحدة الأمريكية والحال ينطبق على باقي دول العالم وعلى الغرب عدم المزايدة على ادعاءات باتت مفضوحة. ففي محطات كثيرة، واجه الإعلام الأمريكي قيوداً على حريته بل وتعسفاً مع بعض رموزه. وفي الشهور الستة الماضية كان واضحاً مدى الانحياز لصالح إسرائيل، حيث فرضت بعض منصات التواصل الاجتماعي الأمريكية (فيسبوك وإكس "تويتر") قيوداً تعسفية على الآراء والتدوينات التي تنتقد ما يتعرض له الفلسطينيون من مجازر في غزة، خصوصاً الموقف الأمريكي غير الموضوعي.
الصراع الأمريكي-الصيني في مجال التكنولوجيا قائم ومستمر منذ عقود، ضمن حالة التنافس المتزايد بين البلدين على المكانة والنفوذ العالمي. لكن حتى أعوام قليلة مضت، كان ذلك التنافس متركزاً بالأساس على امتلاك أدوات القوة الاقتصادية، وأيضاً العسكرية وإن بدرجة أقل. وقبل سنوات قليلة، منعت واشنطن بناء واستخدام الشبكات التابعة لشركة هواوي الصينية داخل الأراضي الأمريكية. على أساس أن تلك الشبكات تحتوي على تقنيات وبرمجيات تجسسية. كما اتخذت واشنطن أشكالاً أخرى لحظر أو الحد من استخدام المنتجات التكنولوجية الصينية، ويخوض البلدان جولات من التفاوض والتصارع في هذا المجال.
ومع الطفرة الهائلة التي شهدها العالم في مجال تكنولوجيا الاتصال، وتعاظم أهمية التواصل المباشر عبر العالم الافتراضي بواسطة منصات التواصل الاجتماعي، تحولت الحواسيب والهواتف المحمولة والأجهزة اللوحية إلى وسائل إعلام وتأثير مباشر وعميق في تشكيل الرأي العام وبناء الأفكار للجمهور المتلقي، كأفراد ومجموعات. لكن الخطير أن ذلك النمط الجديد من وسائل الإعلام، لا يعمل وفق توجيهات حكومية ولا يخضع حصرياً لتوجهات الدول كما كان حال الإعلام التقليدي من إذاعات وصحف وشاشات.
الخلاصة: أن واشنطن تمارس ما تتهم به الصين وروسيا وكوريا الشمالية من تقييد للحريات. ربما ليس بشكل كامل، وإنما بانتقائية معيارها المصلحة وتُوجهها الأغراض السياسية. الوضع إذن ليس مثالياً على الجانبين، فلا نموذج واحدا يُحتذى في صراع يدفع كل منهما إلى التحكم في آراء وتوجهات المجتمع، من أجل السلطة والمكاسب السياسية بالأساس.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة