بقدر ما أن التكنولوجيا وثوراتها لعبت أدوارا كبيرا في دعم "الليبرالية" بأجنحتها المختلفة، فإنها لعبت دورا لا يقل أهمية في تقويضه.
صعود نجم دونالد ترامب إلى السياسة الأمريكية، والخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي أو ما سُمي "البريكست"، وانتخاب شخصيات يمينية متطرفة إلى قمة السلطة السياسية في دول مثل بولندا والمجر وإيطاليا، وفي الدول الأخرى التي لم يصل فيها هؤلاء إلى السلطة فإن موقفهم تعزز في المجالس التشريعية في فرنسا وألمانيا وفي البرلمان الأوروبي أيضا.
لقد خلقت "الليبرالية" نقيضها من داخلها، فالتاريخ في النهاية لا ينتهي بل يخلق للبشرية أزماتها الجديدة، وهذه المرة كيف ينتهي الشيء ونقيضه إلى توليفة جديدة ربما تجعل البشرية أكثر سعادة
خارج المعسكر الغربي، فإن انتخاب "مودي" في الهند و"بولسنارو" في البرازيل كان شهادة بأن "أزمة الديمقراطية" باتت تمثل ظاهرة عالمية. الدراسات والمقالات التي تناولت هذا الموضوع لا عدد لها ولا حصر، وفي العدد الأخير (يوليو/أغسطس) من مجلة الشؤون الخارجية الأمريكية المرموقة، كتبت جوليا أزاري مقالا بعنوان "إنها المؤسسات يا غبي، الجذور الحقيقية للأزمة السياسية الأمريكية"؛ وفي عدد سابق على ذلك (مارس /أبريل) كتب جيل ليبور عن "الأمريكية الجديدة، لماذا تحتاج كل أمة إلى قصة وطنية؟" ناقش فيها الموضوع ذاته من زاوية أخرى. والحقيقة أن مراجعة الدوريات الغربية كلها سوف تكتشف أن الكتابة في موضوعات "أزمة الليبرالية" و"أزمة الديمقراطية" باتت من الموضوعات التي لا تكشف عن "أزمة" ما في الموضوع، بقدر ما هي تعكس أيضا "أزمة" في الفكر الذي يفكر فيها.
المسألة تبدو كما لو كانت رد فعل مضادا لموجة فكرية كاسحة ظهرت في مطلع تسعينيات القرن الماضي، أي قبل ثلاثة عقود تقريبا، والتي عنونها الفيلسوف "فرانسيس فوكاياما" فيما كتبه عن "نهاية التاريخ". كان الاتحاد السوفيتي قد سقط، والكتلة الاشتراكية في العالم قد انهارت، وبدا كما لو كان العالم قد بات خالصا للفكرة الليبرالية والنظام الديمقراطي حتى باتت هي المنظومة العالمية التي على أساسها يمكن التدخل العسكري تحت اسم "التدخل الإنساني" متخطيا في ذلك فكرة السيادة الخاصة بالدولة وسلطتها على مواطنيها. كانت "نهاية التاريخ" قد بدأت تيارا فكريا يقوم على عدة مفاهيم هي: الليبرالية، والديمقراطية، والرأسمالية، وحقوق الإنسان. الأربعة جري التعامل معها تحت مظلة "العولمة" باعتبارها تمثل حركة التاريخ التي لا بد لها أن تكون الهادية لمكونات النظام "العالمي" من وحدات سياسية سواء كانت دولا أو شركات أو منظمات أهلية أو دولية أو عالمية.
المدهش أنه لم يكن ممكنا لهذه الموجة العالمية المفترضة أن تروج على الساحة العالمية لولا أنها كانت مؤيدة باندفاع الولايات المتحدة الأمريكية لكي تكون الدولة العظمى الوحيدة، والقطب العالمي الأوحد، في إدارة الكرة الأرضية. لم يختلف عن ذلك جورج بوش الأب أو الابن أو بيل كلينتون أو باراك أوباما، فالجميع قام حكمه على أنه إذا كان القرن العشرون قرنا أمريكيا فإن القرن الواحد والعشرين لا بد أن يكون كذلك. الانقلاب الذي جرى في الولايات المتحدة بانتخاب دونالد ترامب كان انقلابا على موجة عالمية بقدر ما كان انقلابا على موجة أمريكية خاصة. فما جرى في الفكر العالمي خلال العامين الماضيين لم يكن فقط نتيجة الأزمة الجارية لليبرالية والديمقراطية والرأسمالية وحقوق الإنسان بقدر ما صاحبها انفجار في الكتابة والفكر حول "الهوية" و"الدولة القومية" والمصالح المباشرة للبشر. وحتى نفهم هذا التغير فإنه من الضروري أن نعرف أن منظومة المفاهيم "الليبرالية" ليست مترادفات لنفس الموضوع، فالديمقراطية هي نظام للحكم وإجراءات لتولي السلطة السياسية، أما الرأسمالية فهي نظام اقتصادي يقوم على المنافسة وحرية السوق، وحقوق الإنسان هي مجموعة من القيم التي تترجم المساواة إلى واقع يرفض التمييز سواء كان ذلك على أساس الدين أو اللون أو العرق. "الليبرالية" ليست مجرد مظلة لذلك ولكنها منظومة فكرية أساسها الفرد، وحرياته الشخصية والعامة في بدنه وأملاكه، وكل ذلك يعطيه قدرات خارقة للمبادرة والإبداع.
في العقد الأخير من القرن العشرين، أصبحت "الليبرالية" هي الديانة العالمية بقدر ما سجلت نهاية التاريخ؛ ولكنها كما كان الحال في معظم النظريات والفلسفات الحاكمة كانت على أرض الواقع تخلق نقيضها الديالكتيكي. فكما ذكرنا أن "العولمة" خلقت نقيضها ممثلا في "الهوية" و"الدولة القومية" و"الديمقراطية" كان متصورا فيها ميكانيكيا أن التوافق بين الأغلبية والأقلية سوف يكون ممكنا دائما، ولكن ثبت أن النقيض، أي الانقسام داخل الأمة والمجلس التشريعي وبين اليمين واليسار، أصبح هو الأمر الطبيعي. باراك أوباما في خطابة الأخير عبّر عن عجزه عن تفادي هذا الانفلاق في الساحة السياسية الأمريكية. انتهت الديمقراطية، ويا للعجب، إلى اتجاهين: طغيان الأغلبية بفعل الشعبوية أو حالة من التشرذم والعجز عن اتخاذ القرار، حتى إن أوباما حكم عاميه الأخيرين بالقرارات التنفيذية التي يخولها له الدستور والتي يحق لخليفته إلغاؤها بقرارات مضادة، وكان ذلك هو ما فعله خليفته دونالد ترامب. حرية الفرد وحقوق الإنسان خلقت نقيضا هو حرية الجماعة وحقوقها في أن تكون لها قيم وتقاليد وقصة مشتركة لا ينبغي كسرها عن طريق الشطحات الإنسانية المنفردة التي تعطل العقل الجمعي للمواطنين في التوافق والتراضي.
هذه النقائض جميعها جعلت من حكم "الرجل القوي" و"شرعية الإنجاز" وضرورة "الاصطفاف الوطني" مبررا تماما، وكذلك أمثلتها الظاهرة في الصين وروسيا، بل إن استدعاء ما يماثلها في التاريخ بات مبررا مثل حكم "لي كوان يو" في سنغافورة، ومهاتير محمد في ماليزيا، وبارك في كوريا الجنوبية، وبينوشيه في شيلي. وإذا كان العقد الأول من القرن الواحد والعشرين قد حكى قصة "العولمة" و"الليبرالية" وزوال الحدود القومية وانفتاح الحدود للهجرة واللجوء والانتقال من أجل العمل أو السياحة، ومعها تنظيمات منظمة التجارة العالمية التي تحاسب الدول على مدى انفتاحها، فإن العقد الثاني من القرن الحالي شهد قصة مضادة تماما، حيث عرفت البشرية أشكالا جديدة من العنف والإرهاب العابر للحدود، وعرفت إقامة الأسوار والحواجز، ولم تكن القصة شرق أوسطية فقط، أو مشاهدها تدور حول سفن عائمة تحمل اللاجئين في البحر الأبيض المتوسط، بل ممتدة حتى الحدود الأمريكية المكسيكية، حيث الرئيس الأمريكي يناضل من أجل تمويل الكونجرس لبناء حائط يفصل بين بلاده والمكسيك، بينما تعبِّئ المكسيك قواتها العسكرية لمنع جحافل اللاجئين من أمريكا الوسطى من العبور إلى الولايات المتحدة!
وبقدر ما أن التكنولوجيا وثوراتها لعبت أدوارا كبيرا في دعم "الليبرالية" بأجنحتها المختلفة، فإنها لعبت دورا لا يقل أهمية في تقويضها. فالمؤكد أن التكنولوجيا أعطت للحريات الإنسانية قدرات غير مسبوقة في التاريخ من أجل التعبير والاتصال والحصول على المعرفة، بل طول العمر الفردي، والقدرة على العمل لسنوات أطول مما كان مقدرا في أي وقت مضى. ولكن المؤكد أيضا الآن أن حرية الإنسان أدت إلى توافر الكثير من المعلومات عنه، ومن ثم أصبحت المعلومات الشخصية متاحة وتكوّن قواعد هائلة للمعلومات والبيانات تكفي للسيطرة والتحكم في الحريات الفردية والعامة. ولأول مرة في التاريخ البشري بات ممكنا لدولة كبرى مثل روسيا أن تتدخل في انتخابات دولة أخرى عظمى هي الولايات المتحدة لصالح مرشح هو دونالد ترامب، وفعلت الشيء نفسه عند الاستفتاء على "البريكست" في بريطانيا. لم يكن الأمر جديدا تماما، فقد سبق لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية أن تدخلت في انتخابات دول أخرى لمنع وصول الشيوعيين للحكم في فرنسا وإيطاليا، ولكن ذلك كان حوادث فردية، والمعضلة الآن أن ذلك بات من الممكن أن يشكّل ظاهرة عالمية. لقد خلقت "الليبرالية" نقيضها من داخلها، فالتاريخ في النهاية لا ينتهي بل يخلق للبشرية أزماتها الجديدة، وهذه المرة كيف ينتهي الشيء ونقيضه إلى توليفة جديدة ربما تجعل البشرية أكثر سعادة!
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة