كان العالم كله يعتقد أن الرئيس الأمريكي ما هو إلا موظف حكومي يتلقى راتبه من دافعي الضرائب الأمريكيين، لكن الحال تغير اليوم.
استخدمت إدارة ترامب آخر بالونات الاختبار فيما يتعلق بقضية نقل سفارتها من تل أبيب إلى القدس المحتلة، حين خرج تيلرسون إلى وسائل الإعلام وقتها ليفسر قرار ترامب اعتبار القدس عاصمة لدولة الاحتلال وآلية نقل السفارة الأمريكية، وتبرع بالإجابة عن سؤال حول موعد نقل السفارة؛ قائلاً إن تنفيذ هذا الأمر لن يكون قبل سنتين أو ثلاث على أحسن تقدير.. والمعهود عن الدبلوماسية الأمريكية الاتزان في التصريحات والمراوغة الذكية والتلميح لا التصريح، لكن حديث تيلرسون كان مباشراً وقت الإجابة عن ذلك السؤال لا لبس فيه ولا غموض.
وللأسف فإن ردة الفعل العربية كانت دون المتوقع إلا من البيانات المنددة والقرار غير الملزم الذي اُنتزع في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وكان شكل التفاعل (الدولي) يوحي بأن الأمر يحتاج إلى تريث لاتخاذ موقف قوي للرد على التطور المستجد حينها - وهو تحديد موعد التنفيذ بعامين أو ثلاثة - الأمر الذي دفع هذه الإدارة للإمعان في استفزاز وإغاظة كل من صوّت ضد قرار ترامب الجائر وليس فقط الفلسطينيين والعرب.. لأن ردة فعلهم - في تقدير هذه الإدارة ومستشاريها - لن تكون أبعد من تلك التي أقدموا عليها عبر الأمم المتحدة ومؤسساتها وقراراتها التي لم تعد تسمن ولا تغني من جوع، وقد كانت تلك الخطوة الأممية جزءاً من لعبة البالونات المسمومة.
اتخذت إدارة ترامب قرار التنفيذ - الذي خادعت الجميع بأنه لن يُفعَّل قبل عامين أو ثلاثة - وأعلنت أن تنفيذه سيكون في منتصف مايو المقبل من هذا العام، وهو تاريخ أليم بالنسبة لكل أحرار العالم وليس فقط أهل فلسطين الحبيبة، إنه الذكرى السبعون للنكبة الفلسطينية.. فما الذي يعنيه ذلك؟
بناء على المعطيات الواقعية.. اتخذت إدارة ترامب قرار التنفيذ - الذي خادعت الجميع بأنه لن يُفعّل قبل عامين أو ثلاثة - وأعلنت أن تنفيذه سيكون في منتصف مايو المقبل من هذا العام، وهو تاريخ أليم بالنسبة لكل أحرار العالم وليس فقط أهل فلسطين الحبيبة، إنه الذكرى السبعون للنكبة الفلسطينية.. فما الذي يعنيه ذلك؟
ما يعنيه ذلك هو أن كل بالونات الاختبار نجحت في أداء وظيفتها في امتصاص الغضبة (الدولية)، وسبر غور التحركات الجدية التي من الممكن أن تقوم بها الدول الإسلامية والعربية لمواجهة هذا القرار- والأوروبية طبعاً، لأنها صوتت أيضاً بالرفض- لكن العرب والمسلمين أولى بأي تحرك يتصل بالملف الفلسطيني، وتحرك الأوروبيين دائماً ما كان استجابة لمطالب عربية وإسلامية حين يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هل تمكنت هذه الإدارة خلال فترة الثلاثة أشهر الأخيرة من استنزاف الجهد المبذول دبلوماسياً على المستوى الإسلامي والأوروبي؟ هذا وارد، هل اقتنصت الإدارة الأمريكية فرصة أو نَفَذَت إلى هذه النقطة المتقدمة في خطتها عبر ثغرة ما؟ بالتأكيد.. فالمنطقة العربية منشغلة بالعديد من الملفات الثقيلة التي هي كفيلة بالإضرار بمتابعة ملفات أخرى ملحة.. لكن هذا ليس بعذر، كذلك الأوروبيون منشغلون بملفات قد لا تكون بأهمية ما يشغل المنطقة العربية، لكن كما أسلفت فإن موقفهم تجاه الملف الفلسطيني ينطلق من منطلق الدعم والمساندة وليس القيادة والصدارة.
ولعل أحد أبرز الأسئلة التي تقفز إلى الأذهان في هذا التوقيت.. من الذي يضغط على هذه الإدارة للإسراع في التنفيذ تحت أي ظرف؟ الإجابة: اللوبي اليهودي الصهيوني الذي بات جلياً أنه اختطف القرار الرسمي الأمريكي، وبات يتحكم فيه بالكامل منذ لحظة انتزاعه وعداً من ترامب إبان حملته الانتخابية على أقل تقدير، ويبدو أن الوعود كانت متبادلة من الطرفين، حين نعرف أن رجل الأعمال اليهودي الصهيوني الأمريكي "تشيلدون إديلسون" هو من يمثل هذا الضغط الذي لا يعدو كونه رشوة علنية رخيصة ومبتذلة وتدخلاً مباشراً وفاضحاً في التأثير على القرار الأمريكي من أعلى هرم السلطة.
وقد يبطل العجب إذا عرفنا أن إديلسون هو أبرز داعمي الحزب الجمهوري مالياً وأبرز المتبرعين لترامب وحملته، كما أن له علاقات وطيدة مع نتنياهو وامتلاكه لصحيفة - يسرائيل هيوم - الأكثر انتشاراً في الداخل الإسرائيلي.. هذا الشخص هو من يستعجل بناء السفارة، لأنه عرض تمويل تكاليف البناء.. والمثل الإنجليزي يقول: من يدفع للعازف يختار اللحن!
كان العالم كله يعتقد أن الرئيس الأمريكي ما هو إلا موظف حكومي يتلقى راتبه من دافعي الضرائب الأمريكيين، لكن الحال تغير اليوم وبات الرئيس الأمريكي لا ينفذ إلا التزاماته تجاه من سيستفيد منه لمصلحته الشخصية.
في رأيي فإن ردة الفعل الدولية التي أعقبت هذا الإعلان عن تحديد موعد نقل السفارة غريبة ومخيفة جداً.. لأن في ذلك ما فيه من اعتراف ضمني بانعدام فعالية قرارات الأمم المتحدة الي تم استصدارها تحت مظلتها، وفيه ما فيه من ضعف أو صعوبة التنسيق الدبلوماسي خارج هذه المنظمة، وإلا فلِمَ لم نرَ أي تحرك جدي أحادي أو ثنائي من أي من الدول التي صوتت في الجمعية العامة أو حتى من التكتلات التي صوتت مجتمعة في الجمعية العامة بالرفض؟ اللعب صار على المكشوف وترامب لم يألُ جهداً في تفعيل كل معاني "السياسة لعبة قذرة" و "السياسة فن الممكن"، ألا يوجد ما هو ممكن لمواجهة هذا الأمر؟
لذلك فإن المجهودات شبه الرسمية وغير الرسمية التي تحدث كثيرون بشأنها، وأشرت إليها في مرات سابقة باتت ملحة أكثر من ذي قبل، وبإمكانها أن تلعب دوراً رئيسياً وقد يكون مفعولها أكثر قوة لو وُظّفت بطريقة ذكية، وفي تقديري أنها ستمهد الطريق أمام المؤسسات الرسمية المعنية بالقضية الفلسطينية لإعادة التموضع أمام أي عائق دبلوماسي، ومنها ما قد يرفع عنها أي حرج فيما يتعلق بالحفاظ على توازنات دولية وإقليمية معينة.
على الرغم من كل هذه التساؤلات التي تفرض نفسها وتزيد الحيرة بعد هذا التطور المخادع والغادر الذي يحمل صبغة إسرائيلية بامتياز، إلا أنني سأكون متفائلاً بأن هذه الحالة ما هي إلا هدوء يسبق عاصفة دبلوماسية في المنظور القريب، ترغم ترامب على التراجع عن الأمر برمته وليس فقط مجرد تأجيله.. وعسى أن يكون ذلك قريباً.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة