من عاش في صعيد مصر قبل غزو الكهرباء، والأسفلت يتذكر جيداً هذه الكلمات الثلاث..
فقد كانت دعوات الأمهات الغاضبات على أبنائهن سواء في حضور الأبناء في غالب الأوقات أو في غيابهم في بعضها، خصوصاً عندما يذهب الابن، أو يهمُّ بالذهاب إلى وجهة لا ترضى عنها الأم الخائفة من المجهول الذي قد يهدد حياة ابنها.
"يكشي تروح توكرة" تقولها الأم وتعني "يا رب تروح توكرة"، أو "جاك سقطرى"، وتقصد "ليتهم يأخذونك إلى سقطرى" أو فلان "غار الدر" أي "ذهب غير مأسوف عليه إلى الدر"... كنت إلى وقت قريب أظن أن سقطرى هذا مرض لعين، وأن توكرة حفرة أو مكان يموت فيه الناس، وأن الدر هي ريح صرصر عاتية تأخذ الإنسان بعيدا، بحيث لا يعود ثانية. ثم اكتشفت أن هذه أماكن بعيدة تحيط بحدود مصر... حينها أدركت أن هذه دعوات استراتيجية عسكرية، وليست مجرد دعوات بعقاب خرافي يصيب الابن المغضوب عليه.
توكرة هذه مدينة قديمة بناها الإغريق، وبنوا فيها معبداً؛ تقع في إقليم برقة في ليبيا الشقيقة؛ ما بين المرج وبنغازي، والدر في أقصى جنوب مصر فيها المعبد الوحيد المنحوت داخل الصخر النوبي الذي بناه رمسيس الثاني، وسقطرى هي تلك الجزيرة الاستراتيجية التي تقع جنوب اليمن في بحر العرب؛ ثلاثة أماكن وكأنها نقاط حدود، أو مواقع حماية الأمن القومي المصري من أخطر مواطن تهديداته.
فما الذي جعل النساء - في مجتمع لم تكن تتعلم فيه النساء - يعرفن هذه الأماكن الاستراتيجية البعيدة بآلاف الكيلومترات عنهن، بل إنهن لم يكن يعرفن ماذا تعني هذه الكلمات، وإنما يرددنها بصورة أسطورية، وكأنها أشياء مثل الغول والعنقاء والخل الوفي. كذلك لا يعرف أحد متى بدأت هذه المناطق الجغرافية الثلاث تدخل في القاموس الثقافي لمجتمعاتنا في الصعيد.
والمهم هنا هو البحث في الدلالة والمغزى والمعنى الكامن خلف حضور هذه الكلمات الثلاث في الوعي الجمعي المصري، خصوصاً في الجنوب. وهنا يكون أول ما يتبادر إلى الذهن أن هذه المناطق كانت خطيرة؛ والذاهب إليها مفقود، والراجع منها مولود، لأنها بالتأكيد كانت مناطق حاميات عسكرية، يتم استقطاب الشباب وتجنيدهم للذهاب إليها، وفي الغالب كانوا لا يعودون منها، أو يعود منهم القليل. لذلك تحولت إلى دعوات أشبه بدعوة بالموت، أو الفناء والضياع وعدم العودة.
والدلالة الثانية أن هناك مخاطر تواجه مصر يتم التصدي لها في الدر، وتوكرة، وسقطرى، يعني أن الأمن القومي المصري يبدأ من نهاية إقليم برقة غرباً، ومن بلاد النوبة جنوباً ومن مدخل البحر الأحمر، وأن حماية مصر ومصالحها الاستراتيجية، ووجود شعبها تبدأ من هناك. وأن هذا الإدراك العميق للأمن القومي المصري كان حاضراً في عقل الدولة، وكان يقوم به الشعب، وكانت تفقد في سبيله الأمهات أبناءهن.
والدلالة الثالثة أن مهمة الدفاع عن مصر كان يقوم بها جيش من أبناء الفلاحين والبسطاء، وليس جيشا من الانكشارية المرتزقة، أو المماليك الذين تم استقدامهم أطفالا بالسرقة أو الاسترقاق أو اليتم، وإن جيش مصر هو من أبناء الشعب سواء أكانوا راضين عن الخدمة فيه، أم مجبرين عليها بقوة سلطان الدولة.
وإذا أسقطنا هذا الوعي التاريخي على ما يحدث حولنا الآن من أحداث جسام سنجد أن مصر؛ وهي الدولة الوحيدة على ظهر الأرض التي ما زالت مستمرة في نفس الإقليم، ونفس الشعب لأكثر من خمسة آلاف عام، وجميع الدول غيرها بما فيها الصين تحول وتبدل إقليمها، وشعبها مرات، ومرات لا يمكن معها تأكيد الاستمرارية إلا لعدة مئات من السنين. سنجد أن مصر لا تزال تحتاج إلى أن يذهب أبناؤها إلى هذه النقاط الاستراتيجية الخطيرة على أمنها القومي.
فما زالت حماية وتأمين استمرار تدفق النيل مسألة غاية في الأهمية لمصر وشعبها، وأن وجود أي عائق يحول دون تدفق النيل هو التهديد الأخطر على الأمن القومي المصري، لأنه تهديد لوجود مصر من الأساس، فمن دون النيل لا يوجد شيء اسمه مصر، لذلك لا يمكن العبث مع مصر في مسألة تدفق النيل كالمعتاد.
كذلك ما زال البحر الأحمر من جنوب باب المندب حتى قناة السويس من أهم مواطن الأمن القومي المصري، لذلك فإن العبث في منطقة باب المندب يستوجب أن تبدأ الحماية من "سقطري" أو سقطرى كما هي في الاسم الصحيح. أما توكرة فهذه مسألة أخرى لم يكن ينتبه إليها الكثيرون، إلا بعد أن جاء المرتزقة والإرهابيون والدواعش إلى ليبيا، وبدأ العبث فيها بما يهدد الأمن المصري بالمعنى البسيط الذي يعني تسرب الإرهابيين إلى داخل الحدود المصرية، ولكن المتأمل في حضور توكرة في الوعي الجمعي الشعبي غير الواعي يدرك أنه لا ينبغي أن تكون هناك قوة تهدد أمن مصر سواء في حاضر الأيام، أو مستقبلها.
ثلاث كلمات أو ثلاث دعوات ترد على ألسنة النساء في قرى الصعيد ترسم خريطة الأمن القومي المصري بصورة غاية في الدقة والبراعة، وتحدد الخطوط الحمراء لكل مغامر أو مقامر أو مجنون.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة