الحكومة التونسية.. التوجهات الاقتصادية وضرورات التوافق السياسي
تتبدى ملامح المشهد السياسي التونسي من احتمالات مفتوحة من منظور ضرورات التوافق السياسي للأحزاب الممثلة في البرلمان حول حكومة الفخفاخ
يبدو أن المرحلة الحالية التي تمر بها الساحة السياسية في تونس سوف تشهد ملامح خريطة سياسية واقتصادية جديدة.
وذلك بعد إنهاء رئيس الوزراء المُكلف إلياس الفخفاخ منذ أيام، الجمعة 24 يناير/كانون الأول الجاري، الجدل حول "الحزام السياسي" المُشارك في حكومته، والإعلان عن ملامحها التي لن تشمل حزبي "قلب تونس" و"الدستوري الحر".
وفي الوقت الذي رأى فيه الفخفاخ أن ذلك لا يمكن وصفه بالإقصاء، من حيث إن الديمقراطية السياسية، حسب تعبيره، تقتضي وجود أحزاب في الحكم وأخرى في المعارضة.
إلا أنه، في الوقت نفسه، يواصل حزب قلب تونس، ثاني أكبر حزب في البرلمان (38 مقعدا من مجموع النواب البالغ 217 عضواً)، الحديث عن "إقصاء وبوادر توجه سيضرب أسس النظام السياسي المنصوص عليه في الدستور"، حسب بيان للحزب.
وأكد الحزب في بيانه أن ما يقوم به رئيس الوزراء المكلف من استبعاد بعض الأحزاب هو "إلغاء لكامل نتائج الانتخابات التشريعية والحجم البرلماني للأحزاب".
في إطار هذا المناخ السياسي المشحون تدخل مشاورات تشكيل الحكومة التونسية مرحلة صعبة؛ حيث يبدو أمام الفخفاخ أجل قانوني محدود بفترة 30 يوما، غير قابلة للتجديد، لتشكيل حكومة توافقية متناغمة، تواجه التحديات الاقتصادية والسياسية التي تواجهها الدولة التونسية.
ملامح تشكيل الحكومة
وعلى الرغم من أن أهم الصعوبات التي تواجه الحكومة الجديدة هي الحصول على ثقة البرلمان، حينما يتم عرضها عليه في 19 فبراير/شباط المُقبل، إلا أن رئيس الوزراء المُكلف من قِبل الرئيس التونسي قيس سعيد، في 20 يناير/كانون الأول الجاري، يحاول الاستفادة من أخطاء الحبيب الجملي مرشح حركة النهضة الإخوانية، الذي فشل في نيل ثقة البرلمان، لتنتقل صلاحية اختيار المُكلف بتشكيل الحكومة إلى الرئيس وفقا للدستور.
ومن ثم، فقد ذكر إلياس الفخفاخ في أول مؤتمر صحفي عقده للإعلان عن مسار تشكيل الحكومة الجديدة، الجمعة 24 يناير/كانون الأول الجاري، بأنه يعمل على "تشكيل حكومة سياسية مُصغرة، لا يزيد عدد وزرائها عن 25 وزيرا".
في إشارة منه إلى أن الحكومة الجديدة لن تكون في حجم الحكومة التي تقدم بها الجملي، التي ضمت 42 شخصا بين وزراء وكتاب دولة، وهو ما أثار انتقادات واسعة على الساحة السياسية التونسية.
أما عن ملامح تشكيل الحكومة فقد أشار الفخفاخ إلى أن برنامج حكومته سوف "يعتمد على برامج الأحزاب المُشكلة للائتلاف الحاكم"، مؤكدا أن هذه الأحزاب هي "حركة النهضة، وحزب التيار الديمقراطي، وتحيا تونس، وحركة الشعب".
وفي رده على أسئلة الصحفيين، قال إن حزبي قلب تونس والدستوري الحر "لن يكونا ممثلين في الحكومة القادمة"، معتبرا أنهما "لا ينسجمان مع القاعدة التي اختار على أساسها تشكيل الحكومة".
وهكذا.. يبدو أن رئيس الحكومة المكلف لا يحاول، فقط، أن يستفيد من أخطاء الحبيب الجملي مرشح حركة النهضة الإخوانية، الذي فشل في نيل ثقة البرلمان، بتشكيل حكومة "مُصغرة"، بل يحاول في الوقت نفسه إرساء شرعية تشكيل الحكومة الجديدة على أساس نتائج الانتخابات الرئاسية.
وهو ما يبدو بوضوح من تأكيده على أنه لن يتعاون "إلا مع الأطراف السياسية التي ساندت قيس سعيد في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية"، التي نُظمت في 13 أكتوبر/تشرين الأول الماضي"، حسب تعبيره.
ضرورات التوافق السياسي
في هذا الإطار، فإن موقف رئيس الحكومة التونسية المكلف إلياس الفخفاخ من حزب قلب تونس والحزب الدستوري الحر يعود إلى رغبته في اختيار تحالفه السياسي ممن قاموا بالتصويت لصالح الرئيس التونسي قيس سعيد.
ولعل هذا يتأكد إذا لاحظنا أن الفخفاخ، وإن كان قد ترشح للانتخابات الرئاسية في دورتها الأولى التي نظمت في سبتمبر/أيلول الماضي، إلا أنه أعلن -في بلاغ رسمي- عن دعمه لقيس سعيد في الدورة الثانية للانتخابات ضد منافسه نبيل القروي.
وبالتالي، فإن اعتماد الفخفاخ على شرعية نتائج الانتخابات الرئاسية في مشاورات تشكيل الحكومة التونسية الجديدة هو ما دفع بحزب "قلب تونس"، الذي يتزعمه نبيل القروي، إلى إصدار بيان أكد فيه أن "الحكومة التي يعتزم تكوينها (الفخفاخ)، هي حكومة رئيس، لأنه يستمد شرعيته في تكوينها من نتائج الانتخابات الرئاسية.
وأشار إلى تناسي أن النظام السياسي القائم في البلاد هو نظام برلماني معدل، تستند شرعية الحكومة فيه إلى الشرعية البرلمانية"، حسب ما جاء في البيان.
والواقع.. أن رؤية حزب قلب تونس لا تخلو من وجاهة، إذ على الرغم من أن دور الرئيس يبقى مفصلياً في الحياة السياسية الوطنية، إلا أن الدستور التونسي، دستور 2014، يحدد صلاحيات الرئيس ويمنح الحكومة أوسع صلاحيات الحكم.
بل إن الحكومة ورئيسها أصبحت -تبعاً للدستور- محور السلطة التنفيذية، وهو ما يعني أن شرعية تشكيل الحكومة تستند إلى الشرعية البرلمانية.
أضف إلى ذلك، أن استبعاد إلياس الفخفاخ حزبي قلب تونس والدستوري الحر، هو في حقيقته استبعاد لقوة برلمانية كبيرة، تجمع ما يقرب من 70 نائبا، وهي قوة قادرة على تعطيل القوانين، ويمكن أن تؤثر سلبا على علاقة البرلمان بالحكومة.
لكن على الجانب الآخر، فإن الأحزاب الممثلة في البرلمان تواجه اختبارا صعبا، بل تهديدا لمقاعدها في حال لم تنل حكومة الفخفاخ ثقة البرلمان؛ حيث سيكون لرئيس الجمهورية الحق في حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات تشريعية جديدة.
وهو السيناريو الأسوأ وفق الأحزاب والقوى السياسية التونسية، في ظل الظروف الاقتصادية والاجتماعية الصعبة التي تمر بها البلاد.
إذ، حسب الفقرة الرابعة من الفصل 89 للدستور التونسي، فإنه "إذا مرت 4 أشهر من التكليف الأول ولم يمنح أعضاء مجلس نواب الشعب الثقة للحكومة، لرئيس الجمهورية الحق في حل المجلس والدعوة إلى انتخابات تشريعية في أجل أدناه 45 يوما وأقصاه 90 يومًا".
لذلك، يكون من المتوقع أن تُبدي أحزاب متعددة داخل البرلمان مرونة في التعامل مع حكومة إلياس الفخفاخ، الذي تم تكليفه من جانب رئيس الجمهورية لتشكيل الحكومة.
التوجه الاقتصادي للحكومة
الملاحظ.. هنا، أن اختيار الرئيس التونسي للفخفاخ تحديدا هو اهتمام الأخير بالأولويات الاقتصادية، خصوصا في ظل انخفاض معدل النمو، وارتفاع الدين العام، وتراجع الخدمات على مدى 10 سنوات تقريبا منذ ثورة 2011، التي أطاحت بالرئيس الأسبق زين العابدين بن علي.
ويتضح هذا الاهتمام، عبر مسيرة الفخفاخ السياسية التي تولى من خلالها حقيبة السياحة ثم المالية، في حكومتي حمادي الجبالي وعلي العريض، خلال عام 2013، وتوليه رئاسة شركات عالمية، فضلا عن تأسيسه شركته الخاصة في عام 2014، وهي شركة متخصصة في مشاريع البنية التحتية، عقب عمله لعدة سنوات في شركة "توتال" النفطية وفي قطاع السيارات.
أيضًا، يتمتع الفخفاخ بخبرة إدارية اقتصادية، منذ أن تم تعيينه عضوا في الحكومة التونسية في عهدي "الترويكا"، التي ضمت حزبه، حزب "التكتل الديمقراطي"، إلى جانب حزب المؤتمر برئاسة منصف المرزوقي، وحركة النهضة الإخوانية برئاسة راشد الغنوشي.
خاصة أن الفخفاخ حافظ على عضوية الحكومة بعد استقالة رئيسها حمادي الجبالي، في مارس/آذار 2013، وتعويضه بوزير الداخلية علي العريض.
إلا أن هذه الخبرة الإدارية الاقتصادية التي يتمتع بها إلياس الفخفاخ لم تكن هي السبب الوحيد الذي اعتمد عليه الرئيس التونسي في اختياره رئيسا للحكومة الجديدة، إذ يبدو أن الرئيس قيس سعيد اختار شخصية بإمكانها كسب ثقة رجال الأعمال، في مرحلة تواجه فيها تونس تحديات اقتصادية واجتماعية كبيرة.
إلى جانب ما عُرف عن الفخفاخ، بحسب الكثيرين، من علاقات طيبة بكل من "الحداثيين" و"الليبراليين"، و"الإسلاميين" أيضا، بل يبدو هذا التوجه الاقتصادي لرئيس الحكومة المكلف، من خلال تأكيده بمؤتمره الصحفي على أن "الانتقال الاقتصادي والاجتماعي سيكون من أولويات الحكومة"، مُشددا على أن مهمة الحكومة المُقبلة "تتمثل في تهيئة المناخ لانطلاقة اقتصادية جدية".
في هذا السياق، تتبدى ملامح المشهد السياسي التونسي بما يُعبر عنه من احتمالات مفتوحة على مستويات متعددة، على الأقل من منظور ضرورات التوافق السياسي للأحزاب الممثلة في البرلمان، حول حكومة الفخفاخ وتوجهاتها الاقتصادية.
خصوصا، أن هذه هي المرة الأولى في التاريخ التونسي الحديث، التي تمر فيها 100 يوم على انتخاب رئيس للجمهورية، دون حكومة فعلية تُدير شؤون البلاد.