"الفنكوش" يقسم تونس.. متى تنتهي الأزمة؟
تعاني تونس من نقص ملحوظ في إنتاج الخبز، إحدى أكثر المواد الغذائية استهلاكا لدى التونسيين، وانقسمت البلاد بين الفنكوش و"الباغيت".
وتقلصت كميات الخبز المدعم في تونس الذي يطلق عليه التونسيون "الباغيت " من المخابز في البلاد، ولم يعد موجوداً سوى أنواع الخبز غير المدعمة التي أطلق عليها الرئيس التونسي قيس سعيد "خبز الأثرياء".
ويباع خبز "الباغيت" المدعم في جميع المخابز بـ200 مليم (0.075 دولار).
في حين تباع الأنواع الأخرى من الخبز مثل الخبز من القمح الكامل بـ1200 مليم نحو ربع دولار وخبز الشعير بدينارين ما يعادل نصف دولار، وهو المعروف بـ"الفنكوش".
هذا ما أثار حفيظة التونسيين حيث أصبح خبز للأكابر وخبز لضعاف الحال، الأمر الذي جعل الرئيس التونسي قيس سعيد ينهي هذه الأزمة ويؤكد بأن الخبز خط أحمر وبأنه يجب أن يكون هناك خبز واحد لجميع التونسيين.
وقد قال حينها الرئيس قيس سعيد بأن الأزمة تقف وراءها "لوبيات " تسعى لإثارة الفتنة وتأجيج الأوضاع.
وإثر هذه التصريحات ، اتخذت وزارة التجارة التونسية عدة اجراءات من بينها تكثيف العمل الرقابي ومنع 1500 مخبز من الحصول على الفارينة ( الطحين ) المدعمة لأنه يتم استغلاله في أنواع الخبز الأغلى سعرا.
وأمس الاثنين، شارك نحو 200 خباز في اعتصام في العاصمة تنديدا بقرار السلطات إغلاق 1500 مخبز ومنعها من التزود بالدقيق المدعم.
أزمة المخابز غير المصنفة
ويوجد في تونس 3737 مخبزا "مصنفا"، يحصلون على الدقيق المدعوم من قبل الحكومة، و1443 مخبزا "غير مصنف" يستفيدون من نفس الدقيق لكن بكميات أقل من المخابز الأخرى.
وتبيع المخابز "غير المصنفة" أساسا الحلويات وكمية محددة من الخبز بأسعار أغلى من تلك التي تبيعها المخابز "المصنفة"، في ضرب واضح للقانون.
وللإشارة فإن إنتاج الخبز المدعم يحتاج إلى حصة سنوية تقدر بنحو 6.2 ملايين قنطار من دقيق القمح اللين، غير أن حصة من هذا الدقيق باتت تحوّل لفائدة الأفران غير المصنفة التي تستغلها لصناعة خبز بأثمان عالية وأصناف من المرطبات.
وبعد استعادة حصة الدقيق الكاملة، يمكن لأفران الخبز المدعم إنتاج خبز التونسيين بشكل شامل، وفق ما أكده مراقبون.
وقال محمد بوعنان رئيس الغرفة النقابية لأصحاب المخابز (نقابة) إن أزمة نقص الخبز انتهت منذ الأسبوع الماضي حيث" عدنا للخبز العادي المدعم ".
وأوضح في تصريحات لـ"العين الإخبارية" أن المخابز غير المصنفة هي سبب المشكل حيث تستغل الطحين المدعم في إنتاج الحلويات والخبز الأغلى سعرا.
و أضاف " ولم يعد لهذه المخابز، الحق في إنتاج كل أنواع الخبز موضحا أن "الدولة تريد أن يأخذ المواطنون خبزا مدعما فقط".
من جهة أخرى، قال رئيس منظمة إرشاد المستهلك(مستقلة) لطفي الرياحي بأنّ نحو اربعين شكاية تصل يوميا إلى منظمة إرشاد المستهلك تتعلّق بفقدان الخبز واجبار المستهلك على شراء خبز رفيع، إلى جانب التلاعب بالوزن المحدد للقطعة الواحدة منه".
و لابد أن يكون طول خبز "الباغيت" موحدًا في 80 سنتيمترا ووزنه 250 غراما.
وفسر الرياحي في تصريحات لـ"العين الإخبارية " سبب المشكل قائلا إن الخباز يتحصل على الطحين المدعم ، ويبيعه "كمادة رفيعة" بأسعار حرة ويشتري التونسي منتوجا مدعما بأسعار حرّة مضاعفة.
وتابع أن المرطبات و(الكرواسون) يتم تصنيعهم بالفارينة (الطحين) المدعمة ويتم بيعهم بأسعار باهظة وهذا غير معقول لأنه يجب فصل بيع المرطبات والبيتزا وغيرها عن بيع الخبز.
أزمة هيكلية
من جهة أخرى، قال الخبير الاقتصادي التونسي محسن عبد الرحمن إن الدولة التونسية تحتكر عبر "الديوان الوطني للحبوب" التصرف في قطاع الحبوب في تونس.
وأكد في تصريحات لـ"العين الإخبارية " أن أزمة الجفاف التي ضربت البلاد وهلكت محصول القمح في البلاد ،قلّ الإنتاج المحلي من الحبوب، وأصبحت تونس تلجأ للاستيراد من الخارج.
وتابع" هذه الوضعية جعلت من الديوان الوطني للحبوب في موقف مالي صعب خاصة في ظل شح العملة الأجنبية في البلاد وتزايد الأسعار العالمية في أعقاب اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية ما جعل هذه المؤسسة الحكومية غير قادرة على تلبية احتياجات الاستهلاك المحلي من القمح والدقيق.
وأكد عبد الرحمن أنه في ظل ضعف فرص الحصول على العملة الصعبة والاقتراض الخارجي فإن أزمة الخبز ستستمر.
وللإشارة فإن البنك الأوروبي قدم دعماً بقيمة 150 مليون يورو للمساهمة في تمويل مشروع "تعزيز صمود الأمن الغذائي"، بهدف تمويل واردات القمح اللين والقمح الصلب والشعير، والتي تمثل قرابة 15% من احتياجات الاستهلاك السنوي للبلاد.
كما قدم الاتحاد الأوروبي منحة مقدرة بنحو ملياري يورو للمساعدة الفنية لدعم إعداد وتنفيذ إصلاح قطاع الحبوب.
أزمة مسيسة
وفي حديث مع "العين الإخبارية"، قال نجيب البرهومي الناشط والمحلل السياسي التونسي إن الخبز في تونس ذو رمزية كبيرة في تاريخ تونس الحديث حيث كانت الخبزة حاضرة بقوة في أغلب التظاهرات سنة 2011 (لاسقاط نظام زين العابدين بن علي )كرمز احتجاجي مستلهَم من إرث نضالي وثقافة شعبية لشحذ همم المتظاهرين.
وذكر بأن تونس شهدت سابقاً "أحداث الخبز" سنة 1984، نتيجة عدم توافر المواد الغذائية في الأسواق ورفع أسعارها، "وهو الأمر الذي تسعى بعض القوى السياسية من الإخوان وحلفائهم، إلى تكراره في الوقت الراهن لتنفيذ أجندة سياسية تتعلق بعودتها للمشهد السياسي".
وتابع "وهذا ما أكده الرئيس قيس سعيد في خطابات متعددة بأن هناك أطراف تسعى لتأجيج الاوضاع في البلاد ".
وأحداث الخبز، تعود لأواخر شهر ديسمبر/كانون الأول 1983 وأوائل يناير/كانون الثاني 1984، حيث انطلقت شرارتها الأولى في مدينة دوز التابعة لولاية قبلي وصولا إلى العاصمة.
وشهدت تلك الأحداث مظاهرات أسفرت عن مواجهات بين المتظاهرين وقوات الأمن فيما بينها، وأدت إلى سقوط عشرات القتلى، إضافة إلى عدد كبير من المعتقلين بينهم طلبة وتلاميذ.
لكن خطاب الدقائق القليلة للرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة أحال تلك الاحتجاجات إلى فرحة عارمة عمت مختلف المدن التونسية بعد تخفيض أسعار الخبز.
وأكد البرهومي أنه قبل الاستقلال سنة 1956، حين كان عدد السكان لا يتجاوز 4 ملايين نسمة، كان التونسي يتزوّد بالقمح من الفلاح مباشرة ثم يتوجّه إلى الطاحونة ومنه يستخرج مؤونة السنة من الكسكسي والمحمصة والدقيق الخاص بإعداد الخبز طوال السنة.
ومنذ 2021، تراجع إنتاج الحبوب في تونس لأسباب مناخية، وانتقلت تداعياته بعد شهور قليلة إلى الأسواق المحلية، من حيث عدم توفر كميات مطمئنة من القمح الصلب المستخدم في إنتاج الخبز.
ووجدت الحكومة أن الحل يكمن في اللجوء إلى الاستيراد، ولكن هذا الأمر اعترضته عراقيل بسبب الأزمة المالية التي تمر بها البلاد.
وتستورد تونس 60% من القمح من أوكرانيا وروسيا لتوفير الغذاء، وهو ما بات صعبا بسبب الأزمة العالمية.