جميع الوقائع والمعطيات الماثلة اليوم تبرهن على أن أردوغان وحزبه يواجهان مشكلة سياسية متفاقمة
بين وعي ملتبس حيال وظيفة حزبه ونزعة تسلطية استبدادية للهيمنة على مفاصل السلطة؛ أفقد أردوغان تدريجيا حزب العدالة والتنمية الحاكم وظيفته السياسية وحوّله إلى ما يمكن وصفه بهيكل تنظيمي أجوف.. تحولت السلطة مشخّصة بزعيم الحزب ورئيس البلاد إلى ظاهرة فوقية مهيمنة على تفاصيل الحزب والسلطة، أدى ذلك إلى إفراغ الدائرة البرلمانية الحاكمة من جوهر بنيتها وطاقتها الإنتاجية ووظيفتها لجهة رفد السلطة المنبثقة عن الحزب بكوادر ووجوه جديدة تغذي شرايين الحزب والسلطة وتمنحهما وسائل وأسباب البقاء والاستمرار.
ما حصل على يد أردوغان تجلى بقرارات فصل وإقصاء لعدد من رموز وقادة الحزب المؤسسين ولبعض منظريه الأيديولوجيين، واستقالات لعدد آخر من تلك الرموز والقيادات المخضرمة التي شكلت مع أردوغان خطا موازيا في مسيرة صعود الحزب ووصوله إلى السلطة منذ نحو عقدين من الزمن، وحين وجدت تلك القيادات نفسها بين واحد من خيارين؛ إما البقاء تحت سلطة أردوغان بلا دور ولا تأثير في رسم سياسة البلاد الداخلية والخارجية وبالتالي تتحول إلى شاهد زور، فضلت الخيار الثاني بالاستقالة من حزب لم يعد بفعل تسلط زعيمه سوى منبر لتمجيد السلطان ومباركة نهجه وهو ما يناقض أسس وقواعد ونظام العمل الحزبي والبرلماني التشاركي.
إذا كان نهج أردوغان التسلطي قد أفرغ حزب العدالة والتنمية من وظيفته السياسية، فإنهما، الحزب وأردوغان، قد أسهما بشكل ملموس في وضع تركيا أمام أزمة هوية بكل أبعادها ومقوماتها المعرفية والسياسية والتاريخية.
إلى أين ينحدر حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا؟ وهل سيكون زعيمه الرئيس أردوغان بمنأى عن التصدعات الحاصلة في صفوفه في ظل التحديات البارزة حزبيا وسياسيا لسلطته وقاعدته الحزبية؟ وهل بقيت بيد أردوغان خيارات التفافية لإنقاذ مركبه؟
جميع الوقائع والمعطيات الماثلة اليوم تبرهن على أن أردوغان وحزبه يواجهان مشكلة سياسية متفاقمة ناجمة عن عملية الهدم اللا واعي التي مارسها أردوغان ضد الحزب وتقاليده وكوادره بوحي نزعته الذاتية للتفرد بالسلطة وبذلك ألغى جوهر عملية التجدد والحيوية في هياكل الحزب وتحديدا النقد الذاتي والمراجعة الدائمة لسياسات الحزب التي تؤسس وتسهم في إدارة شؤون البلاد داخليا وخارجيا، فلم تعد تصدر أصوات نقدية أو حتى مغايرة لمسار ونهج زعيم الحزب، كما أن احتكار العمل السياسي من قبله عطل المفهوم الديمقراطي للعمل الحزبي والسياسي حين اختار اتخاذ الكثير من القرارات بمفرده على المستويين الداخلي والخارجي، داخليا مثلت خسارة حزب العدالة والتنمية بلدية إسطنبول العنوان الأكثر دلالة على تضعضعه وعزوف الناخب التركي عنه، وخارجيا أفصحت سياسة أردوغان عن تشتت ورعونة في صياغة علاقات تركيا مع محيطها العربي والإقليمي والدولي.
من الطبيعي أن تحدث تصدعات نتيجة ذلك داخل صفوف الحزب، على أن الأهم في سيل التحديات الداخلية المتنامية تجلى في رسم عدد من القادة المستقلين ملامح مرحلة جديدة لشكل الحياة الحزبية التنافسية في ساحة العمل السياسي في تركيا مستقبلا عبر الإعلان عن قرب ولادة أحزاب جديدة مناهضة للعدالة والتنمية ولنهج رئيسه.
من خارج العدالة والتنمية يبرز تحدٍ لا يقل أهمية يتمثل بالصعود المتدرج لحزب الشعب الجمهوري المعارض وانتزاعه بلدية إسطنبول من أردوغان وحزبه، وعودة انخراطه سياسيا في بعض الملفات الخارجية، إذ أعلن رسميا دعوته لعقد مؤتمر في إسطنبول مخصص لبحث الوضع السوري بمشاركة ممثلين عن جميع أطراف الأزمة السورية من السلطة والمعارضة، وليس من شك في أن انعقاد ورعاية هذا المؤتمر من قبل أعرق الأحزاب التركية والمعارض حاليا سيشكل مقدمة لتهشيم صورة أردوغان وحزبه على المستويين الشعبي والسياسي ويسحب البساط من تحت أقدامهما، ويمزق الإطار الخادع الذي رسمه أردوغان بمفرده للأزمة السورية مع كل ما يترتب على ذلك من تعرية للمواقف والدعايات الأردوغانية المزيفة أمام المجتمع التركي.
إذا كان نهج أردوغان التسلطي قد أفرغ حزب العدالة والتنمية من وظيفته السياسية، فإنهما، الحزب وأردوغان، قد أسهما بشكل ملموس في وضع تركيا أمام أزمة هوية بكل أبعادها ومقوماتها المعرفية والسياسية والتاريخية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة