الليرة التركية تتجه صوب سعر صرف يبلغ 8 ليرة مقابل الدولار، وهو ما يعني انخفاض قيمة سعر الصرف بنحو 25% منذ بداية هذا العام،
اتخذ البنك المركزي التركي قرارا في 24 سبتمبر الماضي برفع سعر الفائدة بمقدار نقطتين مئويتين من 8.25% إلى 10.25%، وذلك لأول مرة في عامين. ومن المعروف أن البنك المركزي كان قد خفض سعر الفائدة خلال هذين العامين بما يزيد عن 15% وذلك نزولا على رؤية الرئيس التركي المتفردة التي ترى أن ارتفاع أسعار الفائدة تؤدي إلى ارتفاع معدل التضخم!! على العكس من الشواهد النظرية والعملية كافة. وقد اتجه البنك المركزي إلى رفع سعر الفائدة لاستمرار الانخفاض في سعر صرف الليرة التركية لتبلغ 7.8 ليرة مقابل الدولار.
ويذكر تقرير لوكالة رويترز للأنباء أن الليرة التركية تتجه صوب سعر صرف يبلغ 8 ليرة مقابل الدولار، وهو ما سوف يعني انخفاض قيمة سعر الصرف بنحو 25% منذ بداية هذا العام، وهو ما يضاعف من الضغوط الحالية التي تعاني منها الشركات والاقتصاد إجمالا. ويذكر أن سعر صرف الليرة التركية قد انخفض بأكثر من 80% على مدى العقد الماضي.
وتواجه الشركات والمؤسسات المالية خاصة البنوك بديون خارجية ثقيلة تبلغ قرابة 10 مليار دولار خلال الشهرين المقبلين. وسوف يؤدي الانخفاض المستمر في سعر الصرف إلى إضعاف قدرة الشركات على توفير المزيد من الاستثمارات، ومما يجدر ذكره أن استثمارات قطاع الاعمال لم تحقق أي نمو منذ منتصف عام 2018. وهو ما سوف يؤدي إلى إضعاف معدلات النمو الاقتصادي.
ويسجل معدل التضخم في الوقت نفسه ارتفاعا واضحا، حيث بلغ معدل التضخم وفقا للبيانات الرسمية 11.75% خلال شهر سبتمبر الماضي. ولذلك تعد أسعار الفائدة الحقيقية (سعر الفائدة مخصوما منه معدل التضخم) سالبة حتى بعد أن رفع البنك المركزي سعر الفائدة بمقدار نقطتين مئويتين. وتقصر أسعار الفائدة السالبة عن احتواء معدل ارتفاع الأسعار، كما أنها لا تعطي حافزا لرأس المال الأجنبي وهو ما يعمل أكثر على إضعاف سعر صرف الليرة في بلد يعاني من عجز مزمن في ميزان العمليات الجارية.
هروب رأس المال الأجنبي وعجز ميزان العمليات الجارية
أدت الظروف الاقتصادية الدولية إلى تدفق نحو 525 مليار دولار من النقد الأجنبي على تركيا على مدى 15 عاما، شاملة في ذلك الاستثمارات الأجنبية المباشرة، والاستثمارات في حافظة الأوراق المالية (الأسهم والسندات)، والقروض الخارجية.
وقد انقلبت الأحوال منذ عام 2018 مع خسارة حزب العدالة والتنمية الحاكم ليس فقط للتمويل الأجنبي بل أيضا للتأييد السياسي، كما اتضح من انتخابات البلديات التي تمت خلال العام الماضي. وقد أدى هروب رؤوس الأموال الأجنبية إلى نضوب في احتياطيات تركيا من النقد الأجنبي، حيث هبطت بمقدار 25 مليار دولار خلال الأربعة أشهر الأولى من العام الحالي. ويرى بعض المراقبين أن حزب العدالة والتنمية ليس لديه ما يقدمه للمستثمرين الأجانب ليعمل على جذب استثماراتهم. وبدون التمويل الأجنبي، فإن الحفاظ على استمرار عمل الاقتصاد بشكل مقبول يعد أمرا شاقا. وهكذا يربط هؤلاء المراقبون بين خروج رأس المال الأجنبي من البلاد وإمكانية أن يشهد النفوذ السياسي لحزب العدالة والتنمية تدهورا ملحوظا.
ويعد تدفق النقد الأجنبي أمرا مهما للاقتصاد التركي لانخفاض معدل الادخار المحلي، كما أن النقد الأجنبي يعد أمرا مهما للحفاظ على سعر صرف العملة التركية مقابل العملات الأخرى. والحفاظ على سعر صرف العملة مستقرا يعمل على استقرار تدفق الواردات، خاصة من الآلات والسلع الوسيطة التي يتم استخدامها على نطاق واسع في الصناعة المحلية.
وحيث أن تركيا تعاني من عجز مزمن في ميزان عملياتها الجارية فهي بحاجة إلى تدفق مستمر من النقد الأجنبي لتغطية هذا العجز والاستمرار في النمو الاقتصادي. ولكن حينما تفشل البلد في جذب رؤوس الأموال الكافية لتغطية العجز يكون الطلب على العملات الأجنبية أعلى من المعروض منها مما يؤدي إلى انخفاض سعر صرف العملة المحلية. وتكون محصلة هذا هي ارتفاع أسعار الواردات وارتفاع معدل التضخم، وخاصة في بلد مثل تركيا تعتمد على قسم كبير من الواردات في صناعاتها المحلية مما يجعل من قدرتها على زيادة صادراتها للاستفادة من انخفاض سعر صرف عملتها ليس بنفس القدر فيما لو كانت تعتمد أكثر على المكونات المحلية، وتكون النتيجة النهائية هي انخفاض معدلات نمو الاقتصاد.
ولا يرجع تدفق رأس المال الأجنبي لأي بلد إلى جاذبية البلد الاستثمارية فقط، ولكن أيضا للظروف الدولية. وقد استفاد حزب العدالة والتنمية من توفر السيولة الدولية قبل الأزمة المالية العالمية في عام 2008. فتدفقت كميات غير مسبوقة من رأس المال الأجنبي على القطاع المصرفي وعلى الشركات التي خصخصتها الحكومة التركية. أضف إلى ذلك أن الاقتراض من الخارج كان أمرا ميسورا في ذلك الوقت. وبغض النظر عن بعض التقلبات فقد استمر هذا التدفق لرؤوس الأموال الأجنبية بالنسبة لتركيا حتى عام 2017.
تغيرت القصة خلال العامين الأخيرين، فشهدت تركيا تدفقا عكسيا لرؤوس الأموال الأجنبية. وتم اللجوء بشكل متزايد إلى الاحتياطي من النقد الأجنبي لدى البنك المركزي لتغطية عجز ميزان العمليات الجارية، وهو ما تم جزئيا عن طريق اتفاقيات مبادلة العملة خاصة مع قطر. وانخفض تدفق الاستثمارات المباشرة الأجنبية بشدة، اللهم سوى شراء الأجانب خاصة من العراقيين والصينيين للعقارات في تركيا حيث تدفق لهذا الغرض نحو 10 مليار دولار من إجمالي تدفق شهدته البلاد بلغ نحو 14 مليار دولار. وخرجت بعض الاستثمارات الأجنبية المهمة من تركيا، أو تم التخلي عن خطط سابقة للاستثمار، والمثال البارز هنا هو تخلي شركة فولكس فاجن الألمانية لصناعة السيارات عن خطتها لبناء مصنع كبير في غرب تركيا.
كما انسحبت أيضا الكثير من الاستثمارات الأجنبية غير المباشرة التي تستثمر في الأسهم والسندات. وبينما بدأ هذا الانسحاب من تركيا في صيف عام 2018 ضمن موجه من انسحاب الأجانب من الكثير من الاقتصادات الناشئة، إلا أن هذا الاتجاه استمر في تركيا على الرغم من عودة الكثير من الاستثمارات الأجنبية غير المباشرة إلى الكثير من الاقتصادات الناشئة مرة أخرى بعد ذلك. وتبين الإحصاءات المتاحة أن رأس المال الأجنبي المستثمر في البورصة التركية قد انخفض إلى أقل من 50% من جملة الاستثمارات بعد أن كان قد بلغ نحو 65.8% في شهر يناير الماضي. وكان هذا النوع من الاستثمار قد بلغ الذروة في نوفمبر من عام 2007 ببلوغه 72.3% من إجمالي الاستثمار في البورصة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة