زعيم المعارضة التركية أنهى مسيرة "العدالة" لكن المؤكد أنه أفزع الكثيرين في العمل السياسي خصوصا قيادات الحزب الحاكم
أنهى رئيس حزب الشعب الجمهوري كمال كيليشدار أوغلو أو "غاندي تركيا"، مسيرة 25 يوما سيرا على الأقدام، بدأت في 15 يونيو/ حزيران المنصرم، حيث خرج يطالب بـ"العدالة" لآلاف الأتراك في السجون أو المبعدين عن أعمالهم بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة وإعلان حالة الطوارئ في البلاد.
البداية كانت على الطريق الدولي بين أنقرة واسطنبول حيث انطلق سيرا على الأقدام يريد قطع مسافة 450 كلم رافعا يافطة "العدالة" ليس لأحد نواب حزبه أنيس بربر أوغلو الذي سجن بتهمة التجسس لمدة 25 عاما وحسب، بل لعشرات الآلاف من الموظفين ورجال القضاء والإعلاميين المعتقلين ينتظرون حكم العدالة منذ أشهر.
أقلام وأصوات كثيرة محسوبة على حزب العدالة والتنمية كانت تراهن على الفشل السريع لكيليشدار أوغلو في الوصول إلى ما يريد، لكنه ورغم كبر سنه قاوم الحر والبرد والمطر والعقبات التي وضعها في طريقه بعض الغاضبين مثل روث البقر واتهامه بالسير نيابة عن المتآمرين على تركيا من قوى داخلية وخارجية.
كيف ستقرأ الحكومة والحزب الحاكم هذا المهرجان حيث قرر الآلاف التجمع تحت أشعة الشمس الحارقة في تموز وتتجاهل الكثير من وسائل الإعلام خصوصا الرسمي منها الحدث؟
مع انطلاقة مسيرة رئيس حزب الشعب الجمهوري في 14 يونيو / حزيران المنصرم كان السؤال هل يحقق السياسي التركي المعارض حلمه في العثور على العدالة التي انطلق يبحث عنها على الطريق الدولي بين أنقرة وإسطنبول؟. اليوم ونحن نتابع كيليشدار أوغلو يتحدث أمام عشرات الآلاف حول أن المسيرة مستمرة حتى تحقيق العدالة للجميع في تركيا الغد، نكتشف أن الأصوات المعارضة في البلاد لا تريد التفريط بنتيجة الاستفتاء على التعديلات الدستورية التي حصلت عليها في 16 أبريل / نيسان الماضي وسمحت بإقرار التعديلات بفارق أقل من نقطتين.
كيليشدار أوغلو نجح في جمع مئات آلاف المعارضين تحت شعار "مسيرة العدالة" وحظي بأكبر دعم شعبي لم يصل إليه غيره في تاريخ حزبه، حيث قدر البعض عدد المشاركين في التجمع بنحو مليونين، وهو رقم كان حتى الأمس القريب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يتفرد به في تعبئة وتجييش هذه الأعداد الضخمة، وتحول من رئيس لحزبه إلى زعيم للمعارضة ونجح في توحيد صفوف الحزب وتماسكه بعد تلقيه أكثر من ضربة انتخابية وأزمة داخلية حول القيادة.
لكن ما قاله أمام مئات الآلاف هو الأهم: لقد نجحنا في تحطيم جدار الخوف في تركيا، اليوم الأخير من مسيرتنا ليس سوى انطلاقة جديدة وولادة أخرى لتركيا الديمقراطية العلمانية الأتاتوركية. لقد سرنا لأننا نعارض نظام الرجل الواحد، ولأن السلطة القضائية باتت تحت سيطرة السلطة التنفيذية. لقد كتبنا التاريخ، لقد صنعنا الأسطورة. لقد سرنا من أجل العدالة، ومن أجل حقوق المضطهدين، ومن أجل النواب المسجونين والصحافيين المعتقلين والجامعيين المقالين.
المفاجأة الحقيقية ربما كانت ليس فقط في نجاح غاندي تركيا، كما يصفه البعض بإنهاء مسيرة طويلة مشابهة لحراك "مسيرة الملح" الشهيرة التي قام بها غاندي في الهند عام 1930 ضد الاستعمار البريطاني، بل عندما شرع في قراءة بيان من 10 نقاط حددها كاستراتيجية له في المرحلة المقبلة ودعا الأتراك لتبنّيها والدفاع عنها وكان أهمها إلغاء حالة الطوارئ، ودعم استقلالية القضاء، والإفراج عن الصحفيين المعتقلين، وضمان حرية الصحافة وحرية الرأي والتعبير في الجامعات، وعدم الاعتراف بالتعديلات الدستورية التي أقرت في الاستفتاء الأخير بطريقة غير مشروعة وبقاء النظام البرلماني، «لأن تركيا لا يمكن أن تُحكَم بنظام الرجل الواحد "وضرورة رسم سياسة خارجية تركية جديدة على أساس عدم التدخل في شؤون الآخرين" نعيش في دولة كقطعة من الجنة، ولا أحد يملك الحق في أن يحولها إلى جهنم ".
كيليشدار أوغلو تعرض في اليوم الأول لمسيرته لانتقادات حادة وجهها له الرئيس أردوغان وكبار المسؤولين في الحكومة "العدالة لا يتم البحث عنها في الشوارع وإنما مقرها البرلمان". ليرد عليهم: " عندما وقع الانقلاب الفاشل في تركيا في 15 يوليو / تموز العام الماضي توجه الناس إلى الشوارع للوقوف في وجه الانقلاب وحراسة الديمقراطية، ونحن أيضا سرنا اليوم في الشوارع لطلب العدالة، والقضيتان لا تختلفان".
كيليشدار أوغلو نفسه لم يكن يتوقع أن تتحول ردة فعله هذه إلى حراك شعبي سياسي حزبي واسع خيّب آمال المراهنين على فشله وتراجعه بعد يومين فقط من المغامرة، لكن الذي ساعده على الصبر والصمود حتى النهاية كما قال كان مفعول خيبة الأمل وحجم الانسداد وتجاهل أوضاع عشرات الآلاف من المواطنين الذين يدفعون ثمن المحاولة الانقلابية رغما عنهم عبر زجّهم في السجون لأشهر دون محاكمات حقيقية ووضعهم على لوائح المحظورين أو الخطرين أو المطلوبين للقضاء.
كيليشدار أوغلو أنهى مسيرته لكن المؤكد أنه أفزع الكثيرين في العمل السياسي خصوصا قيادات العدالة والتنمية وحليفهم الحركة القومية اليميني الذين عارضوا وانتقدوا هذا التحرك فها هو اليوم كما تقول الميادين يكسب المزيد من الدعم والتأييد الشعبي والسياسي.
كيليشدار أوغلو في الميادين هو وعشرات الآلاف يبحثون عن العدالة وغالبية المحطات التلفزيونية التركية تقدم برامج ترفيه ومنوعات وأفلام وثائقية، وهذا مؤشر آخر على أن تركيا ستناقش في الأيام المقبلة أكثر من مسألة المسيرة بل طريقة التعامل معها ومحاولة تهميشها وتحويل المشاركين فيها إلى عناصر خطرة تهدد الأمن القومي التركي.
بادرة وصفها الكثير من الأتراك بأنها الأولى من نوعها في التاريخ السياسي التركي، لكن الملفت أن من يقوم بها هو زعيم المعارضة التركية وهو على عتبة السبعينيات من عمره.
مئات الكيلومترات سيرا على الأقدام قطعها كيليشدار أوغلو للتعبير عن رفضه واستنكاره لسياسات حكومة بلاده ومطالبته بالعدالة والتدقيق السريع في ملفات عشرات الآلاف من الموقوفين والمطرودين من أعمالهم. صحت التوقعات ونجح في إيصال رسالة مئات الآلاف في فتح الأبواب أمام نقاشات سياسية وحزبية وحالة جديدة من التعامل مع قرارات السلطات السياسية والقضائية منذ تاريخ 20 يوليو/تموز 2016 تاريخ إعلان حالة الطوارئ في البلاد وحتى اليوم.
صدفة هي أم توقيت أن يتحرك كيليشدار أوغلو في "مسيرة العدالة" التي بدأها للمطالبة بإنصاف الآلاف وأن نرى البرلمان الأوروبي يدعو من ستراسبورغ قيادات الاتحاد الأوروبي ومؤسساته قبل أيام للتصعيد والتشدد حيال عضوية تركيا والتوصية بتجميد المفاوضات في حال نفذت قرارات الاستفتاء الشعبي الأخير. كل هذا يجري وأردوغان يصف ما يدور بعمل يتم بالتنسيق مع قوى تحرض ضد بلدنا.
كيليشدار أوغلو يقول هي مسيرة ليست ملكا لأي حزب سياسي، إنها فقط من أجل تحقيق العدالة، هي مسيرة لكل من تهمه مسألة العدالة ويؤيدها في تركيا التي امتلأت سجونها وانعدمت العدالة فيها " وأردوغان يهاجم المسيرة قائلا: "إن كنتم تتظاهرون من أجل حماية الإرهابيين ومن يدعمهم ولم يخطر لكم أن تتظاهروا ضد المنظمات الإرهابية، فلن تتمكنوا من إقناع أحد بأن هدفكم هو العدالة ".
مهمة كيليشدار أوغلو هي بين المستحيلات في المرحلة المقبلة: إبقاء المعارضة موحدة وتجهيزها لمعركة الانتخابات البرلمانية والرئاسية بعد عامين في وجه حزب العدالة والتنمية الذي بات يحظى بدعم حزب الحركة القومية اليميني حليفه في الاستفتاء الشعبي الأخير وشريكه في الحكم من الخارج كما يرى العديد من المعارضين. هو حتما لا يملك العصا السحرية التي ستبعد حزب العدالة عن الحكم وتحمل حزبه هو إلى السلطة لكنه نجح إلى حد كبير في إيصال كل ما يريد من رسائل إلى الداخل والخارج وأهمها أن تركيا ليست عبارة فقط عن حزب سياسي واحد.
كيف ستكون ردة فعل الرئيس التركي وحزبه الحاكم على المسيرة والحشود والشعارات والمطالب المرفوعة هناك؟ بعد ساعات فقط على رسائل كيليشدار أوغلو كانت الأجهزة الأمنية تقوم بعمليات دهم جديدة واعتقال عشرات الأكاديميين والموظفين بتهم العلاقة بالكيان الموازي. هو ليس الرد الحقيقي حتما على مسيرة حشدت مئات الآلاف وتركت أكثر من علامة استفهام في أذهان الأتراك ووحدت أقصى اليسار واليمين تحت أشعة الشمس الحارقة في ميدان "مالتاباه" انتظارا لقدوم غاندي تركيا
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة