الحرب في أوكرانيا، والتوتر المتصاعد بين الولايات المتحدة وروسيا يومًا بعد يوم، وخطر انتشار الحرب إلى نطاق أوسع في المنطقة، وعدم الاستقرار في الاقتصاد العالمي وحياة البشر كلها تبعات أضرت بالعديد من الدول.
وعرّضت تلك التبعات الدول إلى أزمات اقتصادية خانقة، ومواقف سياسية حرجة، وجعلتها تعيد حساباتها من جديد في التوازن العالمي.
ومن هذه الدول تركيا؛ حيث دفعتها الأحداث المضطرمة هذه إلى الشروع بتغيير سياستها الخارجية أولاً، وتجديد استراتيجيتها الإقليمية والعالمية ثانيًا.
من المفيد قبل الخوض في الموضوع، أن نشير إلى أهم الخطوط الجيواستراتيجية لتركيا، وهي خط المضائق (القرم، بحر إيجة، ليبيا)، وهي نقاط مهمة للغاية، وخط الشرق الأوسط (إيران، العراق، سوريا، قبرص، إسرائيل، جبل طارق)، وهي أيضًا نقاط مهمة للغاية، وخط الهند (إندونيسيا، ماليزيا، الهند، باكستان، خليج البصرة، دول الخليج، قناة السويس، خليج عدن، مصر)، وخط آسيا الوسطى (الدول التركية في آسيا الوسطى، بحر قزوين، القوقاز، أذربيجان، ودول البلقان)، وخط أوراسيا (روسيا، أوكرانيا، شرق أوروبا).
ولأن تركيا تمتلك موقعًا مهمًّا بين هذه المناطق، يتعين عليها الحفاظ على موقعها الاستراتيجي بحسابات دقيقة، وإن أهملت ذلك فسوف يؤدي بها الحال إلى تطورات لها تأثير مباشر على أمنها ومصالحها الأساسية.
ويتطلب الأمر من أجل التمكن من الحفاظ على هذه الإستراتيجية، العمل بروح المبادرة، وتطبيق القوة الذكية في العلاقات الدولية، وإقامة شراكات مع القوى الإقليمية والعالمية.
وبناء على ذلك تقوم تركيا بالتركيز على أمنها ومصالحها ومن ثم على سلامة المنطقة واستقرارها.
وربما تتعارض هذه المصالح مع مصالح واستراتيجيات شريكاتها في حلف الناتو "الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي"، وتتعارض كذلك مع مصالح روسيا التي ما زالت تتصارع مع الولايات المتحدة وأوروبا.
هذا وإن التوتر الكبير بين القوى العالمية الأمريكية والروسية، يلعب دورًا كبيرًا في تحديد الهوية الجيوسياسية، وينبغي أن يُنظر إليه باعتباره مرحلة سابقة للتوتر الآخر بين الولايات المتحدة والصين.
وسواء أطلقنا اسم المنطقة الأوروبية أو الناتو أو حتى مجموعة الدول السبع، فكلها تحالفات استراتيجية تقودها الولايات المتحدة في نهاية المطاف.
وهذا دفع بعض الدول -وعلى رأسها روسيا والصين- إلى المبادرة لكسر هيمنة الغرب على الاقتصاد العالمي من خلال مجموعة بريكس (BRICS) ومنظمة شنغهاي للتعاون، من خلال التكتّل والتوحُّد الجيوسياسي، إذن، إن الأزمة العالمية الحالية التي أصابت تركيا بشكل مباشر، ثم التشتت، والاستقطاب، والمشاكل، والحرب، والمنافسة الشرسة، والعداء، وكل ما يخطر بالبال من سلبيات، سببه في حقيقة الأمر، الصراع القائم بين الولايات المتحدة وروسيا.
تتعارض تحركات الولايات المتحدة الذاتية في سوريا واليونان -مثلاً- مع حساسيات تركيا، حتى إن الولايات المتحدة تتجاهل في بعض تحركاتها الاتفاقات الدولية الحالية في هذه المناطق، وهذا يجعل الولايات المتحدة عقبة كبيرة أمام تركيا؛ إذ بينما تحارب الولايات المتحدة روسيا وإيران اللتين وصفتهما بـ"العدوّتَين الحقيقيتين" لها، تؤيد انضمام قبرص اليونان إلى الاتحاد الأوروبي "الصديق الحقيقي"، ومن ثم تدعم قراراته غير المتوافقة مع مصالح تركيا وحساسياتها. وبذلك تكون الولايات المتحدة عقبة كبيرة أمام تركيا.
وبالنسبة لروسيا يمكن أن نقول إنها تسعى لجعل تركيا "الدولة المشكلة في حلف الناتو"، فتواصل سياساتها في هذا المنوال من جانب، ومن جانب آخر تحتفظ بالقرم التي استولت عليها، ثم تروج لتوجُّهٍ أوراسيٍّ في تركيا، وتٌصعِّب الحل في سوريا، وتتحرك مع إيران ونظام وسوريا في المجال السياسي وفي مسائل المنطقة الشائكة، وتمتلك زمام التوازن في القوقاز.
ثم إن التوتر الذي أحدثته بالضغط على تجارة البحر الأسود والمضائق بسبب الحرب الأوكرانية، وعدم إظهارها ردة فعل قوية تساند بها تحركات تركيا وعملياتها في سوريا.. كل ذلك يتعارض -أيضًا- مع مصالح تركيا وأمنها في المنطقة.
إذن، ما السبيل التي ينبغي على تركيا اتباعها حيال كل هذه التحديات؟ وكيف تستطيع التمكن من المبادرة الذاتية، وتفعيل القوة الذكية، وإقامة شراكات مع القوى الإقليمية والعالمية؟.
أولاً، لم تستطع تركيا حتى الآن التغلب على نقاط الضعف الداخلية عندها -وعلى رأسها الاقتصاد- لتنطلق بالمبادرة الذاتية، وإن الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وروسيا، يعرفون هذا الضعف الذي تعاني منه تركيا جيدًا.
ولعل هذا دفع تركيا إلى اتباع سياسة "التوازن" في المنطقة، لأنها أدركت أن ضعفها هذا، يشكل عائقًا يمنعها من تحقيق أهدافها المرجوة.. من أجل ذلك حرصت تركيا على اتباع سياسة "الحوار"، وتمسكت بدعائم القوة الناعمة، وبالتالي استمرت في أن تكون "العضو الوحيد في حلف الناتو الذي يتفاوض مع روسيا".
وعليه، فإن السياسة المتمثلة في تحقيق "التوازن والحوار" تمنع تركيا من التقدم، وإذا استمرت هذه الحالة لفترة طويلة، ربما تؤدي إلى انفلات الفرص الإستراتيجية الأخرى من يد تركيا.
ثم إذا أخذنا هذه المعوقات التي تواجهها تركيا بعين الاعتبار، فإن سياسة المبادرة، وإقامة شراكات جديدة لها، قد تأتي بمشاكل وأزمات جديدة لم تكن بالحسبان، لذا يجب على تركيا تقليب حساباتها جيدًا قبل المبادرة بأي خطوة تخطوها في هذا المضمار.
في ظل الحرب الأوكرانية-الروسية إذن، لا مناص لتركيا من تحليل جيد وقراءة صحيحة لتقليص الهوة بين الوضع القائم والواقع الجيواستراتيجي ثم القرارات الجيوسياسية.
ولحل هذه المعضلة تحتاج تركيا الانتقالَ بحكمة إلى سياسة تقليل التوترات الموجودة على الساحة العالمية باتباع سياسة التوازن والحوار.
كما يجب أن تكون مبادرات تركيا، في مجالات أقل خطورة، لأن الظروف والعقلانية اليوم تتطلب ذلك. أو بتعبير آخر، يجب على تركيا اليوم اتباع "سياسة خارجية حذرة".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة