تركيا لا تملك آبار الغاز التي تخولها أن تكون دولة تجلس أمام طاولة النفوذ الغازي
لم يبق في تركيا سوى 3 مدن لم يصلها الغاز من أصل 82 مدينة، مما يؤكد أهمية ودور الغاز في الحياة اليومية والإنتاج الصناعي التركي.
ومع ذلك فان الناتج التركي المحلي من الغاز لا يؤمِّن سوى نسبة 24 بالمئة فقط من احتياجات البلاد للطاقة .
مشروع "تاناب" الذي افتتحه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، قبل أيام، والمخصص لنقل الغاز الطبيعي من أذربيجان إلى البلدان الأوروبية عبر الأراضي التركية يعكس حقيقة أن تركيا تحاول بناء معادلات غازية جديدة لتأمين حاجاتها المتزايدة إلى هذه المادة، الخط الأذري يدخل من مدينة أردهان التركية الحدودية الشرقية ويخرج من مدينة أديرنة الشمالية باتجاه اليونان إلى أوروبا. وسيؤمّن 12 بالمئة من احتياجات تركيا الغازية فقط، لكنه بالنسبة للأتراك يحمل الكثير من الفوائد الاستراتيجية: مشروع بطول 1850 كلم يعبر 20 مدينة تركية، شراء الغاز الأذري بسعر مخفض، فرصة عمل لآلاف العمال والمهندسين الأتراك ،16 مليار متر مكعب سنوياً منها 10 مليارات تعبر إلى الخارج و6 مليارات لتأمين احتياجات الداخل التركي .
أهدرت أنقرة في السنوات الأخيرة عبر توتير علاقاتها مع العديد من دول المنطقة أكثر من فرصة باتجاه الوصول إلى ما تريده في موضوع لعب دور صلة الوصل بين مشاريع نقل الطاقة الغازية من الشرق إلى الغرب.
الأهمية الاستراتيجية الأكبر ستتحق كما تتمنى أنقرة عندما يتم ربط الأنبوب بـ «أنبوب جنوب القوقاز»، الذي يضخ الغاز من حقل «شاه دنيز 2» الأذربيجاني في بحر قزوين عبر أذربيجان وجورجيا إلى تركيا، وسيتم بعدها وصل الأنبوب غرباً بـ «الأنبوب العابر للأدرياتيكي» الذي سيضخ الغاز عبر اليونان والبانيا إلى إيطاليا ..
باختصار أكثر 450 مليار متر مكعب هي حاجة أوروبا السنوية من الغاز ، تركيا تريد أن تلعب دوراً أساسياً في نقل ما تستطيعه من هذه الكميات عبر أراضيها ومن خلال مشاريع مد أنابيب مشتركة مع الراغبين .
أهدرت أنقرة في السنوات الأخيرة عبر توتير علاقاتها مع العديد من دول المنطقة أكثر من فرصة باتجاه الوصول إلى ما تريده في موضوع لعب دور صلة الوصل بين مشاريع نقل الطاقة الغازية من الشرق إلى الغرب .
هناك حقيقة لا يمكن إغفالها وهي الكم الكبير من مشاكل تركيا الإقليمية التي تنتظر الحلول، والتي ستظل حجر عثرة أمام أهدافها الغازية في المنطقة . المشكلة القبرصية والأزمات التاريخية المستمرة مع اليونان إلى جانب الخلافات التركية مع العديد من الدول المتشاطئة على الجانب الشرقي لحوض البحر الأبيض المتوسط.
أنقرة هي التي لعبت دوراً محورياً في إيصال طهران إلى ما تريده عبر فتح الأبواب أمام الانتشار والتمدد، وفك عزلة إيران الإقليمية والدولية، فالقيادة السياسية التركية كانت تتطلع من خلال ذلك إلى الاستفادة من الأسواق الإيرانية وتوسيع رقعة التعاون التجاري لكن الهدف التركي الأهم كان طبعاً الاستفادة من الحصول على الغاز الإيراني بأسعار مخفّضة، ومحاولة اللعب على ورقة تأمين وصول هذا الغاز إلى الأسواق الأوروبية.
أنقرة اليوم، والتي كانت لسنوات طويلة تحت رحمة الغاز الإيراني وقرارات طهران التي تحكمت بفرض السعر الذي تريده على الأتراك باتت اليوم تردد أنها وعبر مشاريعها الروسية الأذرية بدأت تتخلص من المحاصرة الإيرانية لها، وتؤمّن لنفسها خيارات غازية بديلة، فهل تبقى طهران في موقع المتفرج أم أن هناك من سيحدثنا في أنقرة بعد أشهر عن فوائد إشراك إيران في خطط نقل الغاز الإقليمية؟.
أنقرة مستفيدة أيضاً من قرار روسيا في مطلع ديسمبر 2014 إلغاء مشروع خط أنابيب "السيل الجنوبي" بسبب الأزمة الأوكرانية، وقرار استبداله بخط " السيل التركي "، والذي يصل إلى حدود اليونان، حيث سيُنشأ مجمع للغاز هناك، ويسهل تصديره إلى دول جنوبي أوروبا، ووجدت نفسها تنسق مع موسكو في خطة ربط خطوط الغاز الخاصة بهما بعضها ببعض، وتسهيل انتقال المادة إلى الأسواق الأوروبية.
سعت أنقرة عبر اتفاقية نقل الغاز الروسي إلى الغرب لتوسيع رقعة تعاونها التجاري والسياسي مع موسكو ثم تأمين حصة غازية أكبر من الاحتياطي الروسي بسعر مخفض وعمولة نقل الغاز الروسي إلى إوروبا .
الدخول الروسي المباشر على خط أزمات المنطقة قد يهدف في العلن إلى تأكيد حضور موسكو في الشرق الأوسط، لكن التقارب الروسي التركي الأخير يعكس حقيقة رغبة البلدين في الدفاع عن مصالحهما في الحصول على الطاقة الغازية وتأمين تصديرها وتسويقها .
تركيا لا تملك آبار الغاز التي تخولها أن تكون دولة تجلس أمام طاولة النفوذ الغازي، لكنها وبعد إعلان أذربيجان واليونان وبلغاريا عن رغبتهم المشاركة في مشروع خط أنابيب "السيل التركي" بدأت تحلم بأن يكون لها حصتها في غاز شرق المتوسط أيضاً ، لتصبح لاعباً أساسياً عبر موقعها الجيواستراتيجي في نقل المادة إلى الأسواق الأوروبية. بشكل آخر تسعى تركيا لزيادة مشترياتها الغازية من أذربيجان بهدف تقليص ارتباطها الغازي بروسيا وإيران والتواجد أمام طاولة الغاز الإقليمية كتعويض على فقدانها للنفط والغاز عبر الحصول على دور يسهل انتقال المادة بين الأسواق والعواصم .
هدف تركيا هو ربط 3 مشاريع نقل الغاز في الأناضول وجنوب القوقاز والبحر الأدرياتيكي ببعضها البعض لتمر عبر أراضيها فتستفيد من الحصول على المادة بالسعر الرخيص، ثم التحرر من التبعية الغازية التي تتركها تحت رحمة الدول الأخرى مثل روسيا وإيران وأذربيجان وقطر والجزائر ، وبعد ذلك عرض خدمات نقل الغاز عبر أراضيها إلى العواصم الأوروبية، وبالتالي تتحول إلى لاعب إقليمي يمسك بورقة مادة حيوية صاعدة يتزايد الطلب عليها.
هناك مسائل أخرى عالقة وغامضة تحتاج إلى متابعة ورصد: التنسيق التركي الروسي يهدف للعب ورقة الغاز في منطقة غير بعيدة عنهما جغرافياً، ويربطهما بها الكثير من المصالح الاستراتيجية ويحاولان تحت غطاء هذه المادة التأثير في ملفات متداخلة مستفيدان من التراجع الأمريكي والتشتت الأوروبي، فهل تمنحهما واشنطن وبروكسل مثل هذه الفرصة؟.
الحلم التركي الاستراتيجي هو ببناء "خط حرير الطاقة الغازية" هذه المرة في محاولة للإمساك بـ"صمام" المنطقة الغازي، فهل يتحول "تاناب" إلى خط بداية تراجع النفوذ الأمريكي على الطاقة، وحرمان واشنطن من فرص التأثير في ملف الغاز الإقليمي؟، أم أن التحرك العسكري الأمريكي الأخير باتجاه مصادر المادة في شرق المتوسط رسالة أمريكية واضحة لمن يعنيه الأمر أن واشنطن لن تتخلى عن مصالحها وحلفائها في المنطقة، وهي ستعمل جاهدة لمنع تشكل أي حلف غازي بقيادة روسية تركية؟
هناك ما ينبغي أن لا ننساه أيضاً هو أن "تاناب" الممر المدعوم من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة سيتيح لأذربيجان ضخ غازها عبر تركيا إلى أوروبا، أليست هي عملية التفاف غربي على روسيا أيضا؟.
تفاهمات منبج وتجاهل واشنطن لعملية قنديل العسكرية التركية هل لها علاقة بمشروع خط أنابيب الغاز الطبيعي العابر للأناضول "تاناب"، المعروف بـ"مشروع العصر" كخطوة استراتيجية يراد لها أن تلعب دوراً محورياً في حصول تركيا على الغاز بأسعار مخفّضة، والاستفادة من عمولة نقل هذه المادة في مناطق الشرق الأوسط، وآسيا، والقوقاز ، وبهذا ستتضاعف كمية الغاز الأذري المصدّر إلى تركيا، ما سيؤدي إلى انخفاض نسبة اعتمادها على الغاز الروسي والإيراني؟.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة