إذا نظرنا إلى خريطة الصراعات التركية حالياً يمكن أن ندرك بسهولة كيف أصبح النظام التركي يجيد فن صناعة الأعداء.
نجحت تركيا وتقدمت عندما انتهجت سياسة تصفير المشكلات مع جميع جيرانها والقوى المحيطة بها، فازدهرت علاقاتها التجارية وتحسنت مؤشراتها الاقتصادية والتنموية، قبل أن تهيمن على رئيسها رجب طيب أردوغان أوهام العظمة وأحلام استعادة الإمبراطورية العثمانية، ونزعات التوسع والهيمنة على حساب دول أنهكتها صراعات وأزمات "الخريف العربي" المشؤوم، والتي جعلت جميعها من أردوغان ونظامه، نموذجاً فريداً من نوعه في كيفية صناعة الأعداء ونشر التوترات في الداخل والخارج.
إذا نظرنا إلى خريطة الصراعات التركية حالياً يمكن أن ندرك بسهولة كيف أصبح النظام التركي يجيد فن صناعة الأعداء، فخلال الأسبوع الماضي، وبينما كانت تركيا منهمكة في سلوكها العدواني في ليبيا من خلال مواصلة انتهاكاتها للقرارات الدولية التي تحظر تصدير السلاح ونقل الميليشيات إلى هذا البلد العربي، اشتدت حدة التوتر الفرنسي- التركي على خلفية هذه الانتهاكات.
حيث وصف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تركيا بأنها أكبر طرف يتدخل الآن في الشأن الليبي، مؤكداً أنها "تتحمل مسؤولية جنائية وتاريخية عما يجري في الأراضي الليبية".
كما تكررت الانتقادات الفرنسية لأنقرة بصورة ملفتة لا تعكس فقط تنامي المخاوف الفرنسية خاصة، والأوروبية عامة، من خطورة السلوك التركي في ليبيا والذي بات يشكل تهديداً كبيراً لأمن أوروبا ودول الجوار، بعد أن حول أردوغان هذه الدولة العربية الواقعة جنوب الحدود الأوروبية إلى بؤرة لاستقطاب الميليشيات المتطرفة والإرهابية.
ولكن تجسد أيضاً حالة الانقسام المتزايد بين حلفاء الناتو، والذي وصل إلى حد قيام سفن حربية تركية باستهداف سفينة حربية فرنسية في البحر المتوسط كانت تقوم بمهام مراقبة حظر تصدير الأسلحة إلى ليبيا، وهي العملية التي دفعت فرنسا إلى تعليق مشاركتها في المهمة البحرية للحلف في البحر المتوسط.
إذا نظرنا إلى خريطة الصراعات التركية حالياً يمكن أن ندرك بسهولة كيف أصبح النظام التركي يجيد فن صناعة الأعداء.
الممارسات التركية لم تهدد فقط الأمن الأوروبي، ولكنها أصبحت تشكل تهديداً حقيقياً لتماسك حلف الناتو بعد أن وصلت الصدامات بينها وبين دول أخرى في الحلف إلى حد ينذر بوقوع صراعات مسلحة بينها، كما هو الحال مع اليونان، التي توترت علاقاتها بها بصورة كبيرة بعد استفزازات أنقرة لها في منطقة شرق البحر المتوسط، وغير ذلك من مظاهر دفعت بعض الباحثين إلى توقع أن تكون تركيا سبباً لانهيار هذا الحلف مستقبلا إذا لم يتم طردها منه.
وبعيداً عن الأزمة الليبية التي سببت التوتر بين أنقرة والعديد من القوى العربية والأوروبية، شهدت العلاقات العراقية- التركية تصعيداً كبيراً على خلفية العمليات العسكرية التركية التي تنفذها أنقرة في شمال العراق منذ منتصف يونيو الماضي والمعروفة باسم "مخالب النمر"، وهي العملية التي قامت خلالها أنقرة بإرسال قوات عسكرية إلى شمال العراق.
بعد عمليات قصف جوي مكثفة في هذه المنطقة بحجة محاربة حزب العمال الكردستاني، وهي الانتهاكات التي أثارت انتقادات وسخط الحكومة العراقية ودفعتها إلى تحريك قواتها العسكرية إلى شمال العراق لوقف أي تقدم لهذه القوات التركية الغازية.
وإلى جانب ليبيا والعراق وسوريا التي يتواجد فيها الجيش التركي ويمارس انتهاكاته لسيادة هذه الدول، تحاول أنقرة تصعيد منسوب التوتر في علاقاتها مع المملكة العربية السعودية من خلال استفزاز المملكة بالأكاذيب والدعاية الإعلامية الموجهة.
إن متابعة مجمل السلوك التركي توضح بجلاء كيف انقلبت سياسة "صفر مشكلات" إلى سياسة "صنع المشكلات"، ومثلما أدت الأولى إلى ازدهار تركيا، فحتماً ستقود الثانية إلى انهيارها وتراجعها، فلا تنمية تتحقق من خلال خلق التوتر، ولا استقرار سيتحقق في ظل نزعات الهيمنة والتسلط، ولن تجني تركيا من سياساتها العدائية سوى الخزي والفشل.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة