بات واضحا من تجارب سابقة أن أنقرة باتت تغلب مصلحتها القومية وعلاقاتها مع موسكو على مصلحة المسلحين في سوريا.
بعد انتهاء الجيش السوري من إحكام قبضته على جنوب سوريا وحسم معركة درعا، بدأ الحديث سريعا عن مصير إدلب التي طالما هددت الحكومة السورية بأن الجيش سيشن هجوما لاستعادتها من يد المسلحين.
عسكريا يمكن تطبيق نفس السيناريو الذي تكرر في الغوطة الشرقية ودرعا لاحقا في إدلب، أي هجوم جوي قوي من المقاتلات الروسية، يتبعه هجوم بري من الجيش السوري والميليشيات الإيرانية المساندة له، ورغم العدد الكبير للمسلحين في إدلب ووجود جماعات إرهابية أجنبية هناك تنتمي لجبهة النصرة وداعش، إلا أن الحسم العسكري سيكون مضمونا ولو طالت المعركة، خصوصا مع اعتماد الجيش السوري تكتيك ضرب المدنيين من أجل زيادة الضغط على المسلحين المقاتلين في تلك المعارك.
والحديث عن أن إدلب هي منطقة خفض تصعيد تم الاتفاق على عدم التعرض لها في اجتماعات أستانة باتفاق تركي روسي إيراني، لن يجعل إدلب في مأمن، خصوصا وأن الغوطة ودرعا كانتا أيضا من مناطق خفض التصعيد المتفق عليها في أستانة، ولم يحل ذلك دون دخول الجيش السوري إليها وسيطرته عليها.
العنصر المختلف الوحيد في وضع إدلب هو وجود نقاط مراقبة عسكرية تركية في 13 موقعا، واتصالات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان المتواصلة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتن والرئيس الأميركي دونالد ترامب فيما يخص إدلب.
مصير إدلب سيكون رهنا بالاتفاقات والمفاوضات التركية الروسية، لكن في حال اتفاق الدولتين على تسليم مصير إدلب إلى تركيا، فإن ذلك سيعني بقاء طويلا للقوات التركية في إدلب إضافة إلى عفرين وجرابلس والباب، مع زيادة وتمكين الحكم الإداري التركي لها مستقبلا.
لكن بات واضحا من تجارب سابقة أن أنقرة باتت تغلب مصلحتها القومية وعلاقاتها مع موسكو على مصلحة المسلحين في سوريا، وقد كان ذلك واضحا في صفقة حلب التي تم تسليمها للجيش السوري باتفاق تركي روسي سابقا.
فيما تصر موسكو على "سحق" جميع المقاتلين الأجانب في إدلب وشمال سوريا، لأن أغلب هؤلاء هم من الشيشان والتركمستانيين، الذين إن عادوا إلى بلادهم بصورة ما سيشنون عمليات إرهابية فيها، وعليه فإنه لا مجال للمهادنة أو المصالحة مع هؤلاء أو توفير ملاذ آمن لهم.
وقد منحت موسكو أنقرة فرصة من الزمن من أجل العمل على فصل هؤلاء الأجانب المُصرّين على الانتماء لتنظيم القاعدة، عن غيرهم من المسلحين السوريين المستعدين لعقد صفقات مصالحة أو حل وسط، وقد شهدنا في الأشهر الماضية عمليات اغتيال غريبة ومتكررة استهدفت قيادات في جبهة النصرة، كذلك شهدنا قصفا روسيا أصاب عددا من اجتماعات قيادة النصرة، في إشارة على تعاون استخباراتي تركي روسي في هذا الاطار.
أنقرة تبدو قلقة اليوم من الوضع في إدلب لعدة أسباب أهمها، احتمال وصول النفوذ الإيراني من خلال مليشيات حزب الله وتلك الأفغانية والباكستانية الشيعية إلى حدودها في إدلب، وكذلك المفاوضات الجارية بين أكراد سوريا والحكومة السورية في دمشق، والتي تعيد مخاوف تركيا من دعم دمشق لحزب العمال الكردستاني على حدودها في القامشلي وعين العرب كوباني والحسكة. بالإضافة إلى القلق من موجة نزوح كبيرة لمليوني مدني إلى تركيا في حال شن الجيش السوري هجوما على إدلب.
لذا فإن هناك احتمالا قائما بأن تقدم تركيا عرضا فريدا من نوعه لموسكو، يقوم على تولي الجيش التركي عملية تصفية المتطرفين الأجانب في إدلب مقابل وقف أي هجوم بري للجيش السوري عليها، يدعم هذا الاحتمال سعي أنقرة في الأسابيع الأخيرة إلى تحصين نقاط المراقبة التي لها في إدلب من خلال بناء جدران خرسانية حولها، تحميها من أية هجمات انتحارية، وهو تطور لافت، إذ إن العلاقة بين تركيا وجبهة النصرة ما زالت قائمة في إطار المهادنة، وقد دخل الجيش التركي إلى تلك النقاط في حماية مقاتلي النصرة سابقا دون أن يتعرضوا لأي هجوم.
لذا فإن تحصين نقاط المراقبة الآن يشير إلى أن أنقرة تستعد لاحتمال انقلاب جبهة النصرة ضدها مستقبلا، وهو ما يقوي احتمال انخراط الجيش التركي في عمليات عسكرية في إدلب. كما يدعم هذا السيناريو أيضا ما صدر عن غسان حمو رئيس ما يسمى بمجالس الإدارة المحلية في إدلب، وهو البيان الذي طالب بدخول الجيش التركي إلى المحافظة وتثبيت حكمه لها إداريا، من أجل منع دخول الجيش السوري لها.
ومن اللافت أن حمو لم يصف الذين يعيشون في إدلب بالسوريين وإنما المدنيين فقط، وذكر بأن إدلب كانت تتبع للحكم العثماني سابقا وأن "أهلها" لن يقبلوا العيش تحت إدارة الحكومة السورية مستقبلا، ولن يقبلوا إلا بحكم إداري تابع لأنقرة.
ومن غير الواضح حتى الآن إذا ما كان هذا البيان قد صدر عن حمو بملء إرادته من أجل تحفيز تركيا على الدخول إلى إدلب ومنع هجوم الجيش السوري، أم أنه صدر بإيعاز من أنقرة التي تفرض سيطرتها فعليا على إدلب حاليا ، والتي بنت فيها عدة مشاريع إسكانية واقتصادية وصحية، وتستعد لبناء أبراج اتصالات هناك تتبع لشبكة الاتصالات التركية، وهي مشاريع لا تشير إلى نية أنقرة سحب قواتها من إدلب قريبا.
كما أن أصواتا قومية في تركيا تدعو للحفاظ على عشرات المسلحين السوريين في إدلب ودمجهم في مليشيات الجيش الحر التابع لتركيا، من أجل تشكيل جيش قوي، يكون جاهزا للاشتباك مع القوات الكردية في شمال سوريا، في حال زاد حزب العمال الكردستاني من قوته هناك وبدأ شن عمليات إرهابية ضد تركيا انطلاقا من الأراضي السورية.
وعليه فإن مصلحة تركيا الأمنية هنا تصطدم لأول مرة بعلاقاتها المتميزة مع روسيا التي تطالب بعودة إدلب إلى سيطرة الحكومة السورية.
مصير إدلب سيكون رهنا بالاتفاقات والمفاوضات التركية الروسية، لكن في حال اتفاق الدولتين على تسليم مصير إدلب إلى تركيا، فإن ذلك سيعني بقاء طويلا للقوات التركية في إدلب إضافة إلى عفرين وجرابلس والباب، مع زيادة وتمكين الحكم الإداري التركي لها مستقبلا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة