السياسات التركية المتهورة القائمة على أساس برنامج شعبوي يميني يقوده أردوغان تسببت في ابتعاد غالبية أصدقاء تركيا السابقين عنها.
مجرد مراجعة سريعة لعلاقات تركيا الخارجية خلال العقد المنصرم، توضح بجلاء كيف أن بعض الدول تخسر تحالفاتها وعلاقاتها المميزة وأصدقاءها بيدها، ثم تجد نفسها فجأة وحيدة بلا أصدقاء، من ألمانيا مروراً بهولندا واليونان والنمسا وقبرص وفرنسا والسويد والدنمارك وليس انتهاء بمصر والسعودية والإمارات والبحرين والولايات المتحدة الأمريكية، بعد أن تسببت السياسات التركية المتهورة، والقائمة على أساس برنامج شعبوي يميني يقوده الرئيس رجب طيب أردوغان، في ابتعاد غالبية أصدقاء تركيا السابقين عنها بمسافات شاسعة، باستثناء قطر وإيران أقرب الحلفاء المتبقين لها، وهم بالمناسبة أساساً يعانون من العزلة أيضاً، وكأنه كتب على المعزولين أن يتحالفوا سوياً ويعزلوا سوياً.
أما أردوغان فليس لديه إلا المؤامرة شماعة يعلق عليها جميع مشاكل بلاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية، في الوقت الذي تزداد فيه العزلة وتختنق بها البلاد، وكل العالم يرى هذه الحقيقة إلا رجلا واحدا يحلم بدور السلطان حتى لو كان عرشه من ورق.
لا أسهل من تعداد شيء من خطايا تركيا السياسية، على سبيل المثال: دعمها اللامحدود لجماعة «الإخوان المسلمين» المصنفة إرهابياً في كثير من دول العالم، السماح لأعداد هائلة من النازحين والمهاجرين من سوريا والعراق وغيرهما بالسفر بطريقة غير شرعية إلى أوروبا طمعاً في ابتزاز أوروبا.
استهداف السعودية والإمارات بشكل فج دون مبرر. إنشاء قاعدة عسكرية في قطر باستغلال مقيت للأزمة الخليجية. الاستخدام السياسي البشع والرخيص لقضية مقتل جمال خاشقجي، التذاكي في الجمع بين العضوية في الناتو وشراء الأسلحة الروسية المتطورة، دعم الجماعات المتطرفة في سوريا، ولولا أن مساحة المقال محدودة لما توقفنا عن تعداد مزيد من السياسات الخارجية التركية المتهورة، ما تسبب في عزلها بشكل يثير الأسى، والنتيجة أنها لم تعد تملك أي حلفاء أو أصدقاء حقيقيين في الشرق الأوسط أو خارجه، وغدت وحيدة في وجه أزمة سياسية تتعاظم من جهة، وأخرى اقتصادية غير مسبوقة من جهة أخرى.
مشكلة أردوغان الكبرى أنه يريد رسم صورة الدولة «الأردوغانية» على معالم كامل بلاده، ما جعل الدولة هشة من الناحية السياسية وفي حالة توتر مستمر مع الآخرين؛ فالعزلة ليست سوى واحدة من نتائج الأزمة.
أما اقتصادياً فالكارثة قادمة لا محالة، حيث يعاني الاقتصاد التركي كما لم يعانِ مسبقاً، فهو في حالة ركود منذ نهاية عام 2018، والتضخم يبلغ نحو 20%، والغذاء والدواء أصبحا أكثر تكلفة بكثير، وتتعرض الليرة لضغوط شديدة، كما يتقلب سعرها مراراً وتكراراً مع خسائر مؤقتة تبلغ 2% يومياً.
أما الزلزال القادم فهو أنه على تركيا تسديد نحو 118 مليار دولار كقروض بالعملات الأجنبية خلال الـ12 شهراً المقبلة، وخسرت السياحة الخليجية بعد أن أصبح السياح يشعرون بالخطر في المدن التركية وأعرضوا عنها وفق تقارير تركية رسمية، هذا كله يثبت أن أردوغان يتغافل أن بلاده بكل بساطة دولة متنوعة ديموغرافياً ومعقدة سياسياً من أن يتمكن شخص واحد من رسم معالمها على صورته الخاصة. وإذا كان الانهيار الاقتصادي السبب الذي أتى بأردوغان إلى السلطة عام 2002، فربما انهيار اقتصادي قادم قد يعني نهاية حكمه.
بالطبع العزلة لم تبدأ اليوم، فلا مفر من استذكار الانقلاب الفاشل الذي وقع في 15 يوليو/تموز 2016، بعد أن اختار أردوغان، الذي غدا أشد استبداداً بشكل تدريجي من خلال لعبه دور «المتسلط المضطهَد»، كما يصفه سونر جاغايتاي في كتابه «السلطان الجديد» مساراً مختلفاً، عندما لم يكتفِ فقط باستخدام سلطات حالة الطوارئ التي منحت له ملاحقة من يتهمهم بأنهم مدبرو الانقلاب، وبلغ عددهم عشرات الألوف، بل شرع أيضاً في شن حملة أوسع نطاقاً بكثير ضد جميع المعارضين، هذا المسار الذي اختطه كان على المستوى الداخلي، أما خارجياً فاستخدم نظرية المؤامرة في خطابه المتكرر بين مناصريه، باعتباره أكثر زعيم في العالم يلقي كلمات وخطباً.. فأوروبا «الصليبية» كما وصفها تتآمر عليه، والولايات المتحدة تتآمر أيضاً باستضافتها فتح الله غولن، والسعودية والإمارات ليستا بعيدتين عن ذلك، وحتى شعبه يتآمر عليه، ألا يوجد حالياً نحو 260 ألف معتقل، منهم 44 ألف متهم بالإرهاب؟! حيث وجد أردوغان في الخطاب الشعبوي التآمري قبولاً لدى أوساط مؤيديه، الذين بالمناسبة لا يشكلون سوى نصف سكان البلاد فقط، بينما النصف الثاني عبر عن موقفه بدقة في الانتخابات البلدية الأخيرة التي خسر فيها حزب العدالة والتنمية أهم وأكبر 3 مدن في البلاد، وكذلك وضحت شعبيته في استفتاء تعديل الدستور في 2017 بعد أن وافق عليه 51.5%، أما البقية فرفضته، كل ذلك يسلط الضوء على واقع مؤسف بشأن البلاد أنها بالفعل تتخبط في أزمة كبيرة، وأن العزلة ليست إلا رأس جبل الجليد الذي تعيشه، وغدت الدولة منقسمة بشكل كبير بين معسكر محافظ يميني من القوميين الأتراك مؤيد لأردوغان، وآخر مكون من جماعات من العلمانيين واليساريين والليبراليين والأكراد مناهض له، أما أردوغان فليس لديه إلا المؤامرة شماعة يعلق عليها جميع مشاكل بلاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية، في الوقت الذي العزلة تزداد وتختنق بها البلاد، وكل العالم يرى هذه الحقيقة إلا رجلا واحدا يحلم بدور السلطان حتى لو كان عرشه من ورق.
نقلاً عن "الشرق الأوسط"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة