مؤشر آخر حول حجم التوتر وتفاقمه بين البلدين جاء مع قرار البنك المركزي التركي
إذا ما نفذت الإدارة الأمريكية قرارات وتوصيات الكونجرس ومجلس المندوبين الداعية لفرض عقوبات تطال التعاون في المجال العسكري والصناعي والدفاعي مع تركيا، وعدم تسليم الشحنة الأولى المتفق عليها من مقاتلات (إف -35) متعددة المهام وأبعادها عن المشاركة في برنامج إنتاجها، وإذا ما قررت أنقرة الرد على هذه الخطوة كما قال المتحدث باسم الخارجية التركية، فستضاف أزمة جديدة إلى لائحة الأزمات التي ارتفع عددها بين البلدين خلال العام الأخير.
يبدو أن أنقرة لم تتقبل بعد حقيقة تسلم الصقور لمهام الإدارة وصناعة القرار في البيت الأبيض، وأن كل رسائل التصعيد والتحضير لقرارات حاسمة للرد على المواقف والسياسات التركية في المنطقة التي تهدد مصالح واشنطن وحلفائها لم يؤخذ بها على محمل الجد.
ترى واشنطن أنها قادرة على عرقلة صفقة صواريخ إس 400 الروسية بين موسكو وأنقرة تحت عنوان أن تركيا جزء من حلف شمال الأطلسي، ولا يمكن لها الانفتاح العسكري على روسيا بهذا الشكل، لذلك هي تلوح بلعب ورقة عدم تسليم طائرات إف 35 المتطورة إلى أنقرة.
الأتراك يقولون إنهم لا يريدون أن يكونوا تحت رحمة الباتريوت بعد الآن وإن واشنطن تريد الحد من قرار تنويع مصادر تسلحهم، وإنه إذا ما ألغت واشنطن تعهداتها في صفقة الطائرات فتركيا قادرة على البحث عن بديل آخر. وموسكو تقول إنها "جاهزة للمساعدة" عبر عرض طائراتها الحديثة سوخوي – 35.
مؤشر آخر حول حجم التوتر وتفاقمه بين البلدين جاء مع قرار البنك المركزي التركي مؤخراً بنقل احتياطاته من الذهب الموجود في المصارف الأمريكية، والذي يبلغ قرابة 220 طناً إلى تركيا، بسبب التخوف التركي من عقوبات أمريكية قد تفرض نتيجة سياسة تركيا الإيرانية.
رسالة تصعيد أخرى أطلقها الرئيس الأمريكي قبل يومين باتجاه أنقرة بدعوته للإفراج عن القس الأمريكي برونسون الذي حوكم وسجن بتهمة التجسس كما تقول السلطات القضائية التركية لكن ترامب يقول إنه غير مقتنع بالتهم والمحاكمات.
ما أهمية زيارة وزير الخارجية التركي مولود شاووش أوغلو المرتقبة الأسبوع المقبل إلى واشنطن، وسط كل هذا التدهور والتصعيد في الجانبين؟ وهل سيكون بمقدوره العودة بتسجيل انتصار سياسي قد يكون له صداه على الصناديق الانتخابية في تركيا بعد 3 أسابيع؟
في العلن هي خلافات تركية أمريكية بسبب ملفات ثنائية وإقليمية لكنها في الحقيقة هي أزمة متشابكة معقدة متعددة الأسباب والجوانب.
التوتر التركي الإسرائيلي ودعوة تل أبيب الإدارة الأمريكية لعدم تسليم المقاتلات الحديثة لأنقرة ومطالبة واشنطن الدخول بقوة على خط ملف غاز شرق المتوسط وعدم التراجع في المواقف الأمريكية حيال الموضوع السوري وإعلان تل أبيب عن استعدادها للدخول في مفاوضات مباشرة مع روسيا حول تسوية في الجولان تضعف الموقفين التركي والإيراني.
قبل أيام رحبت أنقرة بنتائج الاجتماع الثاني للجنة التركية الأمريكية المُشكلة لبحث صيغ التفاهم وإزالة التوتر بين البلدين في الملف السوري وتحديداً في موضوع مدينة منبج الشمالية. أنقرة تقول إن اجتماعات لجنة العمل المشتركة في العاصمة التركية أفضت إلى رسم خريطة طريق للتعاون من أجل ضمان الاستقرار في منبج، وإن وزيري الخارجية الأمريكي مايك بومبيو والتركي مولود شاووش أوغلو، سيجتمعان في 4 يونيو/حزيران، لبحث توصيات المجموعة وتفعيل قراراتها.الهدف هو إيجاد مخرج ينهي تأزم العلاقات بينهما في قضية منبج وشمال سوريا. إنجاز من هذا النوع سينعكس حتماً على نتائج الصناديق في الانتخابات التركية المرتقبة في 24 يونيو المقبل وربما هذا أيضاً قد يكون بين ما يطمح إليه البعض في أنقرة. لكن حسابات الحقل والبيدر قد لا تتطابق مرة أخرى، فوزير الخارجية التركي كان يتحدث قبل شهرين عن هذا الاتفاق ويقول إن "وحدات حماية الشعب" الكردية ستنسحب من غرب الفرات وستتولى قوى عسكرية تركية أمريكية مشتركة حفظ الأمن هناك، وإن خطة منبج بين البلدين ستطبق في شرق الفرات لاحقاً لكن واشنطن بسلوكها وتصرفاتها ومواقفها تقول لا شيء جديد تحت الشمس.
صحيح أن الرئيس التركي أردوغان وبعد تنفيذ عملية عفرين لم يعد يتحدث كثيراً عن تمسك أنقرة بالتحرك نحو منبج وعين العرب وتل أبيض والقامشلي لإخراج عناصر "حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي" منها وإبعادها عن مناطق الحدود التركية السورية، لكن الصحيح أيضاً هو أن العلاقات التركية الأمريكية توترت أكثر فأكثر في الأسابيع الأخيرة بسبب قضايا ثنائية وإقليمية، وأن تفاهم منبج حتى لو تم فهو سيكون بمعرفة روسيا وموافقتها، وسيأخذ بعين الاعتبار حصول واشنطن على ما تريده من ضمانات بعدم الاقتراب من حليفها الكردي وعرقلة مصالحها في شمال وشرق سوريا.
التفاوض الروسي الأمريكي الأخير في جنوب سوريا والحديث عن انتشار قوات النظام السوري وحدها في المناطق الحدودية مع إسرائيل والأردن مؤشر آخر على أن واشنطن وموسكو لن تتريثا طويلاً لناحية إقناع أنقرة بتليين أو تعديل مواقفها في سوريا. الإعلان عن تفاهمات حول منبج لا يعني في أحسن الأحوال أن الخلافات قد سويت بين البلدين.
في المقابل هناك حقيقة أن الرسائل الأمريكية الموجهة إلى أنقرة ما زالت تتحدث عن عدم رغبة واشنطن في تعديل أو تغيير مواقفها حيال تركيا، ليس فقط في ملف الأزمة السورية بل في موضوع التقارب التركي الروسي والتنسيق التركي الإيراني. واشنطن تضغط على أنقرة للتراجع عن مواقفها لكنها تضغط أكثر على إيران لحرمان أنقرة من لعب الورقة الإيرانية ضدها.
يبدو أن أنقرة لم تتقبل بعد حقيقة تسلم الصقور لمهام الإدارة وصناعة القرار في البيت الأبيض، وأن كل رسائل التصعيد والتحضير لقرارات حاسمة للرد على المواقف والسياسات التركية في المنطقة التي تهدد مصالح واشنطن وحلفائها لم يؤخذ بها على محمل الجد.
ترامب لا يسعى فقط للانتقام من السياسة التركية في ملفات ثنائية استراتيجية بل هو يريد تضييق الخناق على السياسة التركية الإقليمية ومحاصرتها بسحب الكثير من الأوراق التي كسبتها بعد التقارب والانفتاح الواسع على روسيا والاتفاقات التي وقعتها مع إيران.
الولايات المتحدة تقوم بما هو أكثر، تتجاهل الطلبات التركية في موضوع تسليم فتح الله كولن المقيم على أراضيها وإنهاء محاكمة هاقان أتيللا المصرفي التركي المتهم بخرق قانون العقوبات الأمريكية على إيران. وترامب لن يقبل بمعادلة ضرورة التقارب والانفتاح على أنقرة بعد تصعيده الأخير ضد إيران والمواقف التركية الأخيرة الداعمة لطهران في الملف النووي ورفض قرارات العقوبات الأمريكية الجديدة ضدها.
البعض في أنقرة أصر على تجاهل معنى التغيير الإداري الواسع في البيت الأبيض والنهج الأمريكي الجديد. لكن أنقرة ستكون بعد الانتخابات المقبلة ليس أمام امتحان القدرة على الجمع بين علاقات إقليمية مع الروس والإيرانيين وإقناع الأمريكيين بهذه الحقيقة بل أمام امتحان طريقة الخروج من سياسة المناورة على أكثر من حبل، والتي لم يقبل بها الكثير من دول المنطقة وشعوبها وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية.
الخطأ التركي الأكبر كان قناعة أنقرة بقدرتها على مواجهة ما يقوله ويريده ترامب والرهان على سياسة إضعاف مواقفه الإقليمية فها هي اليوم وجهاً لوجه مع أمريكا الأكثر تصلباً وتشدداً فيما يتعلق بمصالحها. ترامب لم يعط أنقرة ما تريده في موضوع فتح الله كولن ولم يعلن أيضاً قوات سوريا الديمقراطية مجموعات إرهابية بل رأى فيها حليفاً لواشنطن في الحرب على الإرهاب في سوريا، وهو لم يتبنَ طرح التوافق على قواسم مشتركة بين البلدين ينبغي حمايتها بصيغة دبلوماسية معتدلة ومنفتحة. وهو اختار طريق التصعيد والتلويح بالحظر والعقوبات عند الضرورة، وهو مؤشر آخر على وصول العلاقات إلى طريق مسدود حتى الآن.
شاووش أوغلو خلال لقائه الوزير الأمريكي بومبيو بعد أيام لن ينسى حتماً مواقف الأخير عندما كان عضواً في الكونجرس ودعم مشروع قانون تصنيف الإخوان المسلمين كمنظمة إرهابية والتوصيفات الحادة التي أطلقها ضد تركيا وسياساتها الإقليمية. فكيف سيحصل على جائزة ترضية تجير انتصاراً سياسياً في الداخل التركي في هذه الظروف والأجواء؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة