فالرئيس أردوغان الذي يتهم عددا كبيرا من الصحفيين والناشطين السياسيين بالتجسس سمح بفتح "صندوق أسرار الدولة التركية" أمام شركة أجنبية.
لا يمكن للمتابع للشأن التركي أن يلاحق بسهولة عدد التصريحات المتضاربة والتي يكذب بعضها بعضا بشأن الأزمة المالية في تركيا، فالمشهد يعج بالتصريحات الغريبة والمتضاربة، لدرجة أن المسؤولين ما عادوا يجدون أي حرج في التصريح بشيء والعودة عنه في اليوم التالي دون أي اعتذار أو تصحيح، وكأن لا أحد يتابع أو يتذكر ما قيل بالأمس، قمة هذا التخبط جاءت في إعلان وزير المالية براق البيرق صهر الرئيس أردوغان، الذي أوكل إليه ملف الاقتصاد بالكامل، عن الاتفاق مع شركة ماكينسي الأمريكية للاستشارات المالية والاقتصادية، من أجل متابعة تطبيق البرنامج الاقتصادي الجديد الذي تم الإعلان عنه منتصف سبتمبر الماضي.
يبدو واضحا أن الرئيس أردوغان اختار تحميل المواطن عبء مواجهة الأزمة الاقتصادية وأعبائها للسنوات الثلاث المقبلة، للتغطية على فشل الحكومة في إدارة ملف الاقتصاد، وفشل الخطط الاقتصادية التي كانت متبعة للعقد الماضي القائمة على زيادة النمو من خلال الاقتراض من الخارج
تفاصيل الاتفاق تقضي بأن تتابع الشركة من خلال مكتبيها في أنقرة وإسطنبول عمل الوزارات الستة عشر في الحكومة التركية، من أجل التأكد من عمليات ترشيد الإنفاق وإعطاء شهادة دولية بالتزام الحكومة بتعهداتها أمام المستثمرين الأجانب، هذه الخطوة أثارت جدلا كبيرا في تركيا، خصوصا أن المسؤولين الأتراك وعلى رأسهم الرئيس رجب طيب أردوغان كانوا يؤكدون حتى الأمس القريب أن لا أزمة اقتصادية في تركيا، وأن ما حدث في انهيار سعر الليرة التركية كان بسبب "حرب نفسية شنتها أمريكا على تركيا". وعليه فإن هذه الخطوة الجديدة تعني تسليم مفاتيح الحكومة التركية بالكامل لشركة من دولة تشن حربا على تركيا، حسب التصريحات التركية، إلى جانب أن هذا الإجراء هو اعتراف صريح بوجود أزمة اقتصادية في تركيا، وأزمة ثقة بين الحكومة التركية والمستثمرين الأجانب، احتاجت للاستعانة بشركة أمريكية أجنبية لإعادة هذه الثقة، حزب الجيد القومي المعارض انتقد هذه الخطوة بشدة، قائلا إنه من غير الممكن فتح جميع تعاملات الحكومة التركية المالية أمام شركة أجنبية.
فالرئيس أردوغان الذي يتهم عددا كبيرا من الصحفيين والناشطين السياسيين بالتجسس سمح بفتح "صندوق أسرار الدولة التركية" أمام شركة أجنبية، وهو ما اعتبره الحزب تهديدا للأمن القومي، الأغرب في هذا الأمر أن هذه الشركة الأمريكية ستصدر تقريرا كل 3 أشهر تؤكد فيه التزام الحكومة بالتقشف والبرنامج الاقتصادي الجديد، والتقرير سيصدر عن مكتبها في أنقرة الذي يترأسه صهر قيادي في حزب العدالة والتنمية الحاكم بشير أطالاي، المقرب من الرئيس رجب طيب أردوغان.
فهل يمكن الوثوق بعد ذلك بتقارير هذه الشركة؟ انتقادات أخرى قالت إن هذه الشركة ستقدم النصائح نفسها التي كان صندوق النقد الدولي سيقدمها لتركيا في حال لجأت الحكومة التركية إلى الصندوق لطلب قرض لتجاوز الأزمة الحالية، مع الفارق بأن هذه الشركة لن تقدم أي قرض مالي لتركيا على عكس صندوق النقد، الذي كان يمكن أن يؤمن لتركيا قرضا بنحو 60 مليار دولار يساعدها على تجاوز أزمتها الحالية خلال 5 سنوات.
كما أن اللجوء إلى شركة أجنبية لإدارة دفة الاقتصاد والإشراف عليه هو اعتراف خطير بفشل براق البيرق والحكومة في هذه المهمة، ويتساءل آخرون في المعارضة: أين ذهبت تصريحات الرئيس أردوغان بأنه لا يوجد أزمة اقتصادية في تركيا، وأن ما يحدث إنما هي حرب نفسية تشنها الولايات المتحدة على تركيا؟ فهل يكون التصدي لهذه "الحرب الأمريكية المزعومة" باللجوء إلى شركة أمريكية؟
وفي خطوة ساخرة، طالب بعض السياسيين والناشطين المعارضين الحكومة بالاستعانة بشركات أوروبية للإشراف على وزارتي العدل والداخلية، والتأكد من أن قراراتهما تنسجم ولا تخالف الدستور والقانون والمعايير الأوروبية، من أجل تحسين وضع الحريات واستقلال القضاء في تركيا، بل الاستعانة بشركات أمريكية وأوروبية لإدارة جميع الوزارات التركية من صحة وتعليم وغيرهما من أجل انتشال تركيا من وضعها الحالي، طالما أن الحكومة لا ترى حرجا في تسليم اقتصادها لشركة أجنبية تفتح أمامها جميع دفاترها المحاسبية ومصاريفها، وتساءل البعض في سخرية أيضا: هل ستشرف شركة ماكينسي الأمريكية على بند المصاريف السرية التابع للرئيس أردوغان؟
في الوقت نفسه أعلنت ثلاثة بنوك حكومية في تركيا عن بيع سندات بالليرة التركية مجمل قيمتها تتجاوز 10 مليارات ليرة تركية خلال أسبوع واحد، مع عدم الإفصاح عن الطرف الذي اشترى هذه السندات، فيما أشيع بأن المشتري هو صندوق تأمينات البطالة، وهي خطوة توفر السيولة النقدية لهذه البنوك لكنها تزيد من الغموض وعدم الشفافية في الاقتصاد التركي، ناهيك عن أنه في حال صدقت الأقوال بأن صندوق البطالة هو الذي اشترى هذه السندات بهذا المبلغ الضخم فإن ذلك يعني أن الحكومة التركية بدأت "تقطع من اللحم الحي" لتوفير السيولة في الأسواق، وإنها تعرض مدخرات العمال والموظفين في هذا الصندوق للخطر.
يبدو أن جميع الطرق والسبل باتت مباحة مهما كانت أمام الحكومة التركية من أجل التخفيف من أعباء الأزمة الاقتصادية الحالية على البنوك حتى لو عرضت هذه الأساليب مدخرات تركيا جميعها للخطر، أو جاءت مخالفة ومنافية لجميع التصريحات النارية التي أطلقها الرئيس التركي حول الوضع الاقتصادي في البلاد، كل ذلك في سبيل تجنب الطريق الأسرع والأسلم لتجاوز الأزمة من خلال طرق أبواب صندوق النقد الدولي، إذ أن الرئيس أردوغان وضع نفسه في وضع محرج عندما صرح قبل سنوات بأن حكومته هي التي سددت ديون تركيا للصندوق، بل باتت من الدول التي تمول الصندوق وتمده بالديون، لذا فهو اليوم لا يريد التراجع عن "هذا الإنجاز" حتى لو كلفه ذلك المجازفة بجميع مدخرات تركيا واقتصادها. (مع العلم بأن صندوق النقد الدولي ليس لديه أموال خاصة به وجميع أمواله هي مساهمات من الدول المشاركة في إنشائه ومن بينها تركيا، أي أن مد الصندوق بالأموال ليس ترفا تركيا كما حاول الرئيس أردوغان أن يصوره).
عشرات الشركات تعلن إفلاسها يوميا في تركيا، ونشرت صحيفة سوزجو المعارضة قائمة بمئات الشركات التي أعلنت إفلاسها خلال الأشهر الست الماضية، فيما الأسعار تزداد بشكل سريع يوميا مما يثقل كاهل المواطن التركي الذي بات محاصرا بين إفلاس الشركات وطرد الموظفين من ناحية، وارتفاع الأسعار وكلفة الحياة اليومية من ناحية أخرى، فبينما تنشر وزارة الاقتصاد مفتشين في الأسواق لمراقبة الأسعار وتغريم من يرفعها فإنها لا تقدم أي حل للتصدي لهذه الارتفاعات التي يلجأ إليها التجار بسبب ارتفاع أسعار الوقود والنقل وكذلك المواد المستوردة. وفي مقابل ذلك لا ترى شركات الحكومة أي حرج في رفع أسعارها بشكل كبير، مثل رفع الطيران التركي أسعار النقل -الكارغو- بنسبة 80% دفعة واحدة، فيما يصم الرئيس أردوغان آذانه عن مطالب التجار وأصحاب الشركات لإيجاد حل سريع للأزمة المالية مرددا بأنه لا توجد أزمة أصلا.
يبدو واضحا أن الرئيس أردوغان اختار تحميل المواطن عبء مواجهة الأزمة الاقتصادية وأعبائها للسنوات الثلاث القادمة، للتغطية على فشل الحكومة في إدارة ملف الاقتصاد، وفشل الخطط الاقتصادية التي كانت متبعة للعقد الماضي القائمة على زيادة النمو من خلال الاقتراض من الخارج، فديون البنوك والشركات الموصوفة بالمعدمة –أي التي لا يمكن تحصيلها– سيتم إحالتها على صندوق نقدي كبير تتكفل وزارة الخزانة بسداده من أجل إنقاذ البنوك والحيلولة دون إفلاسها، وليس هناك مصد لتمويل وزارة الخزانة سوى الضرائب التي يدفعها المواطنون، ورغم جميع هذه الحلول الترقيعية التي تثقل كاهل المواطن فإنه لا يوجد حتى الآن أي ضمان على نجاح هذه التدابير في تجاوز الأزمة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة