عانت تركيا مثل غيرها ولأسباب أمنية وجغرافية وحسابات سياسية واقتصادية من ارتدادات ظهور وانتشار مجموعات إرهابية نفذت العشرات من الهجمات فوق أراضيها وتسببت بسقوط المئات من القتلى والجرحى.
لا يزال تنظيم "داعش" ورغم الإعلان عن هزيمته في سوريا والعراق وفي أعقاب الكثير من الحملات ضد عناصره وخلاياه وتصفية واعتقال بعض كبار قياداته وكوادره، يحاول التوغل والتخفي والتخطيط للقيام بعمليات إرهابية في المدن التركية.
السبب الأول هو دور أنقرة في تقويض بنية التنظيم وتضييق الخناق على تحركاته داخل تركيا وخارجها، خصوصاً بعد إعلان وزير الداخلية التركي الأسبق سليمان صويلو أن البلاد ليست فندقاً لاستقبال عناصر "داعش" وهي ستظل تحاربهم وتطاردهم بهدف تسليمهم إلى دولهم. كل هذا كان بين الأسباب الإضافية التي جعلت من تركيا في مقدمة الدول المستهدفة من قبل ما سمي مجموعات "الذئاب المنفردة" والخلايا النائمة في صفوف "داعش" حتى اليوم.
تمكنت أجهزة الاستخبارات التركية في الأيام الأخيرة من إفشال مخطط إرهابي كانت تعد له خلايا تنظيم "داعش" عبر استهداف دور عبادة في مدينة إسطنبول التركية خلال ليلة رأس السنة، في محاولة لإعادة التذكير بهجوم مماثل عام 2016 واستهدف أحد الملاهي الليلية في المدينة وأسفر عن سقوط 39 قتيلاً.
تشير الأرقام الرسمية المعلنة على 3 مراحل خلال النصف الثاني من شهر ديسمبر/كانون الأول المنصرم إلى توقيف أكثر من 340 عنصراً من بقايا تنظيم "داعش" الإرهابي، خلال مداهمة أكثر من 100 مكان، في العديد من المدن التركية الكبرى بإشراف جهاز الاستخبارات التركي "ميت" وبالتنسيق مع العديد من الأجهزة الأمنية والعسكرية الأخرى.
عدد الموقوفين حتى الآن يؤكد أن "داعش" يريد أن ينشط في تركيا ويهدد أمنها واستقرارها إن استطاع، كما فعل أكثر من مرة في اعتداءات وحشية بينها تفجيرات وهجمات أنقرة وأورفا وغازي عنتاب وملهى "رينا" من قبل أحد عناصر التنظيم قبل 7 سنوات في إسطنبول، وبعد شهرين فقط من هجوم مماثل استهدف مطار أتاتورك الدولي وأدى إلى سقوط العشرات بين قتيل وجريح.
تتحدث نتائج التحقيقات الأولية على ضوء الاعترافات والمعلومات التي أدلى بها العشرات من الموقوفين خلال عمليات الاستجواب إلى الوصول في جمع الكثير من التفاصيل حول نشاطات بقايا خلايا التنظيم وتحركاتهم في المنطقة وطرق وأماكن تخفيهم وعمل خلاياهم النائمة، بعد الضربات الكثيرة التي تعرضوا لها في العديد من الدول العربية والإسلامية. هناك الكثير من التكتم حول الأسماء والجنسيات والمعلومات التي حصلت عليها الأجهزة الأمنية التركية حتى الآن، لكن القليل المسرب على ضوء حجم العمليات وعدد الموقوفين ونوعية الأسماء بينهم، يؤكد أن التنظيم تلقى ضربة قوية قبل أن ينفذ هجمات كان يخطط لها في المدن التركية الكبرى وتستهدف دور عبادة وبعثات دبلوماسية وأماكن سياحية بهدف خلق البلبلة والخوف ومحاولة الانتقام.
تحمل المعلومات التي بدأت تظهر إلى العلن أيضاً، الكثير من الإجابات حول أسئلة تطرح مثل كيف تمكن هذا العدد الكبير من خلايا التنظيم التخفي حتى اليوم تحت أسماء مستعارة ووثائق مزورة ومخابئ بعيدة عن الأعين؟ ومن الذي كان يموّل استمرارية عناصرها ويسهل تنقلاتهم بين البلدان والمدن في الأعوام الأخيرة؟ وما الذي كانت هذه المجموعات الإرهابية تعد وتخطط له، خصوصاً بعد الهجمات التي نفذتها في المدن التركية في الأعوام الأخيرة وأسفرت عن سقوط العشرات من المدنيين الأبرياء؟
بين أبرز ما تم التوصل إليه كذلك هو الكشف عن خلايا عنقودية للتنظيم تتحرك تحت اسم "طابور سلمان الفارسي" وتحديد أسماء القيادات والمشرفين على عمل هذه المجموعات داخل تركيا وخارجها.
المؤكد أيضاً أنه وعلى ضوء المعلومات التي جمعتها الأجهزة الأمنية والادعاء العام التركي ستكون هناك عمليات أخرى يتم تنفيذها ضد خلايا أخرى متخفية بعيداً عن الأعين. كما ستتسع دائرة التنسيق الاستخباراتي الإقليمي متعدد الجوانب والأهداف الذي سيسهم في تفكيك الكثير من المجموعات وتحديد أماكن وجودها.
الغامض هو مسألة احتمال أن تكون هذه العناصر تتحرك تحت غطاء "داعش" لتقديم خدمة لأحد ما عبر استهداف الداخل التركي في هذه المرحلة الصعبة والحساسة التي تعيشها عواصم المنطقة على أكثر من جبهة.
ما ينتظر السلطات الأمنية التركية أيضاً هو البحث عن إجابات لتوقيت محاولة عناصر "داعش" التحرك من جديد ومن الداخل التركي هذه المرة، وسط الحديث عن تراجع نشاط التنظيم بشكل ملحوظ في سوريا والعراق. من له مصلحة في استهداف الاستقرار الأمني التركي؟ وهل للتطورات السياسية والأمنية في الإقليم خصوصاً على جبهة غزة ومحاولة الانتقال بالحرب إلى جبهات أخرى علاقة بإيقاظ مجموعات "داعش" من سباتها؟ ومن هو المنزعج من مواقف وتحركات القيادات التركية حيال أكثر من ملف إقليمي بأكثر من طابع سياسي واقتصادي ويريد توتير الأجواء في المدن التركية؟
ليس مستبعداً أن تكون الأجهزة الأمنية التركية قد رفعت من مستوى الحذر والتحسب في مواجهة هذه المجموعات التي قد تحاول الرد، بعد المداهمات والتوقيفات الأخيرة التي تعرضت لها. لكن القيادات التركية تكرر باستمرار أن حربها على هذا التنظيم وغيره من التنظيمات الإرهابية متواصلة، وأن الأمور لن تتوقف عند عملية "درع الفرات" قبل 6 سنوات، وتحرير مناطق في شمال سوريا بينها مدينة الباب من يد مجموعات التنظيم، واعتقال وتصفية بعض رموزه في الداخل التركي مثل قاسم غولار، وفي شمال سوريا مثل القريشي قبل عامين.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة