في زمنٍ مضى، كانت الكلمة تُقال مرةً واحدة، فتُزرع في القلب وتُثمر حياة وتبني جيلًا.
كان الطفل يتعلّم من سكون أبيه، ويقرأ الحكمة في نظرات أمّه. البيت آنذاك كان مدرسة، والوالدان أولوية تتقدّم على النفس، والاحترام هو عنوان التعامل بين أهل البيت.
أمّا اليوم، فقد تغيّرت المعادلة لدى بعض الأسر. صار الهاتف أقرب من الأب، والمؤثرون عبر وسائل التواصل الاجتماعي أصدق من الأم. فنحن أمام جيلٍ يتقن البرمجة أكثر من برّ والديه، ولا نبالغ حين نقول إنّ التقنية اجتاحت البيوت، ولكنها مزّقت الدفء الإنساني بين أفراد الأسرة.
لكن، كيف تبدأ القصة؟ لنرويها عبر «يوسف»:
يوسف لم يكن عاقًا، بل كان من البارّين. شابّ نشأ في قرية تحت كنف والده «أحمد»، رجلٍ وقور علّمه أن الحكمة في الصمت، والبركة في رضا الوالدين. كان يوسف إذا اختلف الناس، لجأوا إليه؛ لأن صوته كان يحمل نبرة والده. كلّ قرارٍ كان يُرجعه إلى أبيه. وكلّما نجح في عملٍ أو صفقة، كان أوّل ما يفعله هو أن يُقبّل رأس والده ويقول: دعاؤك هو سرّي، فادعُ لي كلّ صباح.
لكن شيئًا فشيئًا، تغيّرت المعادلة. مع الانفتاح والتقنية والاحتكاك بأفكارٍ جديدة، بدأ صوت أبيه يخفت في داخله. تسلّلت إليه نغمة غريبة: استقلّ برأيك، لا تحتاج إلا لنفسك. قراراتك لك، لا لأحدٍ سواك. بدا ذلك تمكينًا، لكنه كان بداية الانحدار. بدأ يوسف يُعرض عن المشورة، يتأخّر عن الالتزامات، يراكم التزاماته المالية، ويتخلّى عن التزاماته القيمية. حتى بدأت الديون تتراكم عليه، وضاق به الحال، وساءت ظروفه.
جاء اليوم الذي لم يجد فيه من يقف بجانبه، وحينها فقط بدأ يتذكّر كلمات أبيه ونصائحه ودعاءه الدائم له. عاد إلى بيت العائلة، لم يسمع صوتًا ولا همسًا، بل وجد ورقة صفراء كُتب فيها: يا بني، إن نسيتني يومًا، لم أنسك ساعة. وإن ضيّعت البر، فالباب لم يُغلق. عد إلى الله، وادعُ لي بالرحمة والمغفرة.
جلس يوسف في سكونٍ لم يعرفه من قبل، وانهارت دموعه على راحتيه. لم يكن بحاجةٍ إلى المال، بل إلى لحظةٍ أخرى مع والده. ولكن هيهات، فقد فات الأوان.
ليست هذه قصة يوسف وحده، بل هناك الكثير من القصص الواقعية التي تخلّى فيها الأبناء عن آبائهم وأمهاتهم وعائلاتهم، ثم أعلنوا الندم. حيث بكت فنانة مشهورة على الهواء في برنامجٍ تلفزيوني، معبّرةً عن شعورها المرير بعد وفاة والدتها، وقالت: «غبتُ عنها بسبب العمل، لكن الغياب الحقيقي كان في قلبي. الآن، أبكي لأنها لم تعد تسمعني».
ويروي كاتبٌ مرموق في لقاءٍ موثّق أنه كان منشغلًا في الكتابة عن والدته، قائلًا: «كلّ ما نلته من شهرة لا يعوّض لحظةً مع أمي، والندم بعد الموت موجعٌ جدًا».
هذه الشهادات توضّح لنا حقيقةً يتعامى عنها البعض، وهي أن برّ الوالدين ليس مجرّد واجب، بل صمّام أمانٍ للنجاح والاستقرار النفسي.
كان آباؤنا يعملون في الشمس، وقلوبهم مروّية بالرضا. يتأخّر الغداء فلا يغضب أحد. يتعطّل الوالد عن وعده، فيفهم الطفل أنه معذور. اليوم، جيلٌ جديد نشأ على إشباعٍ فوري لكلّ حاجة، لكنّه فقد التحمّل، وتراجعت لديه مفاهيم الصبر، والاحترام، والمسؤولية. جيلٌ تربّى على أن كلّ ما يريده يجب أن يُلبّى، فإذا لم يُلبَّ، انقلب على من ربّاه؛ لأنه لم يتعلّم معنى الصبر والكفاح.
أيّها الآباء والأمهات، لا تتوقّفوا عن التوجيه، فهو واجبكم الأبدي، لكن احرصوا أن يكون مغلّفًا بالحبّ لا بالسيطرة، وبالاحتواء لا بالأوامر. اشرحوا لأبنائكم بصوت العقل، لا بصخب الغضب، وشاركوهم اختياراتهم بدلًا من أن تفرضوها عليهم.
امنحوهم الثقة، لا لتُطلَق بلا حدود، بل لِتُغرس في تربةٍ من القيم المتجذّرة في «السنع الإماراتي الأصيل». فالطفل الذي ينشأ على الحوار يفهم، والذي يُمنح الثقة يصبح أهلًا لها.
وأما أنتم، يا أبناء وبنات هذا الجيل، لا تجعلوا من التكنولوجيا بوابةً للغفلة عن الجذور؛ فليس كلّ ما هو حديث حرية، ولا كلّ ما هو قديم قيد. تذكّروا أن من أطاع والديه في صغره، أطاعه أبناؤه في كبره، وأن لحظة الندم على برٍّ فات لا يعوّضها عمرٌ كامل.
فادخل الآن على والدك ووالدتك، ولو برسالةٍ قصيرة تقول فيها: «رضاكم هو راحتي، ودعاؤكم هو سرّي، أحتاجكما أكثر ممّا تظنّان. فكما قال الله تعالى: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ [الإسراء: 24]».
واعلموا أن البرّ ليس تكليفًا ثقيلًا، بل هو نورٌ يضيء دروبكم، وبركةٌ في أرزاقكم، وسكينةٌ لا يمنحها جاهٌ أو مالٌ أو منصب.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة