الشيخ محمد بن زايد يؤكد أن الإمارات لا تتوانى أبدا عن دعم تعزيز السلام ونشر مبادئ الإخاء والتعايش السلمي على مستوى العالم
حين شهدت أرض الإمارات العربية المتحدة في شهر فبراير/شباط الماضي توقيع وثيقة الأخوة الإنسانية، خلال زيارة البابا فرنسيس بابا الكنسية الكاثوليكية التي شارك في فعالياتها فضيلة الشيخ أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف، فإن شمعة جديدة أضيئت ضمن شموع التنوير، وذلك في عالم ومن أسف شديد تزداد فيه دروب الظلام، وتتعالى صيحات العنصرية المقيتة، وبينهما بدا وكأن البابا فرنسيس الفقير الذي يسكن وراء جدران الفاتيكان يصيح مؤخرا شاكيا من "فائض الكراهية"، ذاك الذي ملأ العالم.
ينتظر عالمنا العربي بداية رؤية ثمار الوثيقة تنضج في دروب وأزقة حارتنا العربية المصابة بمشاهد التعصب والتزمت، على خلاف جذور الحضارة العربية والإسلامية الخلاقة، تلك التي قبلت كل البشر بغض النظر عن أديانهم أو أعراقهم
ستة أشهر منذ توقيع الوثيقة التي تسعى إلى تجنيب العالم أهوال الشقاق والفراق، الخصام والكراهية، والتي تسعى في سياق اعتبار العالم برمته عائلة بشرية واحدة، تفرح مع الفرحين وتحزن مع المحزونين، عائلة تقفز على البراجماتية الضيقة، وتنطلق في عالم المودات الرحب الفسيح، حيث التضحية والإيثار مفاهيم جديرة بالاعتناق، عوضا عن مبادئ الحالية التي جعلت العالم ساحة للحروب والغزوات.
هل حان الوقت لأن تتبلور الوثيقة الأهم حول العالم، في صورة برامج عمل ومنطلقات إنسانية، للوصول إلى سكان المسكونة كافة من الشمال إلى الجنوب، ومن مشارق الأرض إلى مغاربها؟
يبدو أن هذا ما يجب أن يحدث، وهو ما أعلنه سمو الشيخ محمد بن زايد ولي عهد أبوظبي من خلال تشكيل لجنة مشتركة تبلور رؤى الوثيقة وتستخرج منها مبادرات قادرة على إتاحة الفرص الخلاقة للإنسانية الساعية في دروب الاتفاق وبعيدا عن مسارات الافتراق.
لا يوقد أحد سراجا ويضعه تحت المكيال، بل يرفعه إلى أعلى موقع في البيت، حتى ينير للداخلين والخارجين، وهذا ما يتوجب فعله بالنسبة لوثيقة الأخوة، إنها مثل الحقيقة، يجب ألا تعرف فقط، بل تقال أيضا، وأن تعلن للعالم، وأن يبشر بما فيها من مودات ومحبات ترتفع في سماوات عالمنا المتخاصم، علها تفشي السلام، وتكون أداة لتغيير وجه العالم المعتم في حاضرات أيامنا.
يؤكد سمو الشيخ محمد بن زايد أن الإمارات لا تتوانى أبدا عن دعم الجهود والمساعي الهادفة إلى تعزيز السلام ونشر مبادئ الإخاء والتعايش السلمي على مستوى العالم، ومن هنا يأتي دور اللجنة ومهامها في وضع إطار عمل للمرحلة المقبلة لضمان تحقيق أهداف الإعلان العالمي للأخوة الإنسانية، والعمل على إعداد الخطط والبرامج والمبادرات اللازمة لتشغيل بنود الوثيقة ومتابعة تنفيذها على المستويات الإقليمية والدولية كافة، وعقد اللقاءات الدولية مع القادة والزعماء الدينيين ورؤساء المنظمات العالمية والشخصيات المعنية برعاية ودعم ونشر الفكرة التي ولدت من أجلها الوثيقة.
هناك تساؤل عن الحصاد الكثير، وكيف يمكن لمثل هذا الإعلان الأخوي الكبير أن يكون مرشدا في الطريق، يعين الفاعل في كرم الإنسانية المأزومة للخروج من كبواتهم الإنسانية، حيث الأيديولوجيات قمعت الحريات والدوجمائيات كبلت النفوس والأرواح.
يمكن القطع بأن الوثيقة في حد ذاتها هي إطار عام ومحتوى واسع، إطار يحمل على التواصل الفعال مع كبار المسؤولين حول العالم، بدءا من السلطات التشريعية مرورا بالتنفيذية، وبهدف واحد لا يغيب، تقريب المسافات بين الناس، وبناء الجسور بين الأمم والشعوب، هذا هو الهدف الأسمى الذي من أجله ولدت الوثيقة، وهو بعينه الطريق الشافي من الجروح الأحادية الذهنية.
حين تعمل الوثيقة على حث كل أصحاب النوايا الطيبة من أجل المضي معا في طريق تعبيد طرق الأجيال القادمة بمبادئ الأخوة والعدالة، الحق والخير، الجمال والرحمة، فإنها بذلك تكون قد استطاعت أن تنقل جبال الكراهية من الصدور والقلوب وأن تطرحها في اليم لتذوب في بحار النسيان.
هل يمكن اعتبار وثيقة "الأخوة الإنسانية" النسخة الأحدث في مسار الحلم الإنساني الكبير؟ في الحقيقة هناك احتمال كبير بأن تكون هي الحلم الإنساني الكبير لا سيما أن الوثيقة تتجاوز كثيرا جدا مسألة الحوار لتصل إلى العيش الإنساني الأخوي الواحد.
يمكن القطع بأن جذور التأصيل الفكري والإيماني لهذه الوثيقة قد تبدت في السطور الثلاثة الأولى، وفيها أن: الإيمان يحمل المؤمن على أن يرى في الآخر أخا له، عليه أن يؤازره ويحبه، وانطلاقا من الإيمان بالله الذي خلق الناس جميعا وخلق الكون والخلائق وساوى بينهم برحمته، فإن المؤمن مدعو للتعبير عن هذه الأخوة الإنسانية بالاعتناء بالخليقة وبالكون كله وبتقديم العون لكل إنسان لا سيما الضعفاء منهم والأشخاص الأكثر حاجة وعوزا.
هي إذن ليست وثيقة مجمعية كنسية مثل وثيقة "في حاضرات أيامنا" ولا وثيقة إسلامية مثل "المواطنة" التي صدرت عن الأزهر الشريف، قبل بضعة أعوام. بل هي مسار إنساني لكل الخليقة، وإن رسم خطوطه الفاتيكان والأزهر الشريف، برعاية من دولة الإمارات، وتحت سماواتها، مسار يسعى لانتشال تلك الأخوة التي أرهقتها سياسات التعصب والتفرقة التي تعبث بمصائر الشعوب ومقدراتهم وأنظمة التربع الأعمى والتوجهات الأيديولوجية البغيضة.
ما يميز "وثيقة الأخوة" عن سائر الوثائق والنداءات المشابهة أمران، الأول: هو أننا أمام دور لرجال الدين مغاير لأدوار تاريخية كانت أدوات للتفرقة بدلا من التجميع ولم الشتات المتفرق، رجال دين أياديهم متضافرة لخير الإنسانية، سهامهم ورماحهم أضحت مناجل للزرع والحصاد، لا للموت والقتال. رجال دين من منطلق مسؤولياتهم الأدبية والدينية، يطالبون أنفسهم وقادة العالم وصناع السياسات الدولية والاقتصاد العالمي بالعمل جديا على نشر ثقافة التسامح والتعايش والسلام والتدخل الفوري لإيقاف سيل الدماء البريئة ووقف ما يشهده العالم حاليا من حروب وصراعات وتراجع مناخي وانحدار ثقافي وأخلاقي.
والثاني: هو أن مجال المناداة بها لا يتوقف عند حدود الكنائس والمساجد، والمطالبون بتفعيلها ليسوا القساوسة أو الأئمة فقط، إنها تتجاوز ضيق الأيديولوجيا، إلى رحابة الإبستمولوجيا، فهي تتوجه للمفكرين والفلاسفة لرجال الدين والفنانين للإعلاميين والمبدعين في كل مكان ليعيدوا اكتشاف قيم السلام والعدل والأخوة الإنسانية والعيش المشترك، وليؤكدوا أهميتها كطوق نجاة للجميع، وليسعدوا في نشر هذه القيم بين الناس في كل مكان.
ينتظر عالمنا العربي بداية رؤية ثمار الوثيقة تنضج في دروب وأزقة حارتنا العربية المصابة بمشاهد التعصب والتزمت، على خلاف جذور الحضارة العربية والإسلامية الخلاقة، تلك التي قبلت كل البشر بغض النظر عن أديانهم أو أعراقهم. ويضحى فرض عين على القائمين على اللجنة الوصول إلى القيادات التي تحرك العالم، وفتح قنوات التواصل العقلي والقلبي على الجميع.
لا نريد الآخر أن يكون الجحيم كما صرح سارتر في ستينيات القرن الماضي، بل رفيق درب الأخوة الإنسانية أمس واليوم وغدا وإلى ما شاء الله.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة