يستحق كتاب الباحثة الإماراتية الدكتورة رنا المطوع، الصادر أخيرًا بعنوان "الحياة في المدينة المذهلة: دبي نموذجًا" (Everyday Life in the Spectacular City: Making Home in Dubai) اهتمامًا وتقديرًا خاصين.
فعنوان الكتاب مهم، ومضمونه أهم، وخلاصاته في غاية الأهمية.
وأول ما يشُد الانتباه في الكتاب هو عنوانه الذي اختارته له المؤلفة. وقد وصفت الدكتورة رنا بأوصاف عديدة دبي قديمًا وحديثًا؛ فهي لدى بعضهم مدينة التجارة والتجَّار، وهي لدى بعضهم الآخر عاصمة المال والأعمال، وهي لدى آخرين مدينة الذهب وتجارة الذهب، حيث سوق الذهب في دبي يُعد أحد أكبر أسواق الذهب في العالم. ودبي هي أيضًا مدينة المستقبل بتركيزها على الذكاء الاصطناعي، وتحولها إلى أكبر مختبر في العالم لتجربة الأفكار الحضرية الرائدة.
ولكن الأستاذة الجامعية الإماراتية الدكتورة رنا المطوع تعتقد أن أفضل وصف يليق بهذه المدينة التي تسابق الزمن هو وصفها بالمدينة المذهلة، أو المدهشة (Spectacular City)، ولديها أسباب مقنعة لاختيار هذا الوصف دون غيره؛ فدبي مدهشة لأنها مدينة عصرية تقدم حياة آمنة وكريمة للمواطن والمقيم على قدم المساواة، ولا تفرق بين الرأسمالي المحلي والرأسمالي الأجنبي، ما داما يشاركان في تطوير المدينة؛ ودبي مدينة مذهلة؛ لأن المكون العالمي فيها يُعامَل بأهمية المكون المحلي نفسه ما دام يرسخ سمعتها، ويسهم في رحلتها نحو العالمية.
وبجانب عنوان الكتاب "الحياة في المدينة المذهلة: دبي نموذجًا"، يلفت النظر مضمونُ الكتاب القيم، ومنهجه العلمي المميز. وكتاب الدكتورة رنا المطوع هو في الأصل أطروحة دكتوراه قُدمت إلى جامعة أكسفورد، التي تُعد إحدى أفضل جامعات العالم، وصدر عن جامعة كاليفورنيا في الولايات المتحدة الأمريكية. وينطلق الكتاب من أطروحة رئيسية تنتقد نظريات أكاديمية غربية عقيمة تدعي أن دبي هي مجرد فقاعة زائفة ومصطنعة وبراقة من دون تاريخ، ومن دون ثقافة، ومن دون حضارة، ومن دون روح، حيث المظهر أهم من الجوهر.
وتقول الدكتورة رنا إن هذه النظرة إلى دبي هي نظرة استشراقية قاصرة وظالمة ومتسرعة؛ فدبي متجذرة ومتجددة، ودبي تقليدية وحديثة، ودبي محافظة وليبرالية، وهي مزيج من كل ذلك وأكثر، لا يشعر فيها المواطن والمقيم بالغربة والعزلة.
وما يميز هذا الكتاب أنه بحث ميداني، وليس نظريًّا؛ إذ يعتمد على زيارات ميدانية ولقاءات أُجرِيت في أماكن عامة، مثل المراكز التجارية والأحياء السكنية والشواطئ.
وتحدثت الدكتورة رنا مع نحو 100 مواطن ومقيم من الرجال والنساء من أعمار مختلفة، وجنسيات متنوعة، أشاروا جميعًا إلى الفرق بين الحياة في دبي الماضي، ودبي الحاضر، وتفاعلهم مع مدينة سريعة الإيقاع، لا تتوقف فيها حركة التغير على مدار السنة. وكان السؤال الكبير الذي طُرح عليهم جميعًا: ما معنى الانتماء إلى مدينة مذهلة؟ وما الذي يسعِدهم ويزعجهم في تحولاتها السريعة؟ وما مدى رضا المواطن والمقيم عما أصبحت عليه اليوم؟
اختارت الدكتورة رنا عينة بحثها الميداني بعناية ودقة من محيطها الاجتماعي بصفتها مواطنة وامرأة وباحثة إماراتية؛ وجاء معظم أفراد العينة من الطبقة المتوسطة والميسورة بواقع 60% من المواطنين، و40% من المقيمين بدبي لمدة طويلة شاهدوا فيها تحولاتها المذهلة.
وخصصت الدكتورة رنا فصول الكتاب لمناقشة خمسة عناوين رئيسية هي: الأصالة في دبي العالمية، والانتماء في نموذج دبي النيوليبرالي، والعولمة والتنوع في دبي، ونموذج دبي الحداثي والكوزموبوليتاني، وأخيرًا ثمن الحصول على الأمن والأمان في مدينة مذهلة اسمها دبي.
وجاءت نتيجة البحث الميداني لتقول إن درجة رضا المواطن والمقيم ليست مطلقة، بل هي نسبية. وبعيدًا عن الرضا المطلق؛ فإن أغلبية أفراد العينة تشعر بالانتماء والامتنان لمدينة تقدم جودة حياة استثنائية.
ويشير الكتاب إلى قدرة أفراد العينة على التكيُّف والتأقلم مع إيقاع تحولات المدينة الفائقة السرعة؛ ولا شك أن هناك مَن ينتقد الإيقاع السريع، وهناك مَن يشكك في نموذج دبي الحداثي، ويفضل القديم على الحديث؛ ولكن الشريحة الكبرى من عينة البحث أظهرت قدرة عجيبة على التكيف والتأقلم مع الإيقاع الحياتي السريع.
وتقول الدكتورة رنا المطوع في الكتاب إن المواطن في دبي "مرن" يتقبل بصدرٍ رحبٍ الجديد، ويستوعب سريعًا المستجدات، ويتكيف مع التحولات؛ وربما هذه أبرز خلاصة من خلاصات الكتاب.
وعلى الرغم من أن كتاب "الحياة في المدينة المذهلة: دبي نموذجًا" هو كتاب مرجعي مهم لفهم نموذج دبي الحداثي؛ فإنه -كأي كتاب آخر- توجَد عليه ملاحظات نقدية عدَّة.
وأولى الملاحظات ذات علاقة باستثناء الكتاب أفراد شريحة اجتماعية مهمة من سكان دبي، هي الجالية الأوروبية والأمريكية؛ فهذا المكون الغربي كبير وقديم، وشاهد تحول دبي، وأسهم في تطورها على امتداد 70 عامًا؛ فلماذا استُبعد من عينة الدراسة؟ هل يشعر هؤلاء بالقدر نفسه من الانتماء والمرونة في التكيف مع إيقاع المدينة السريع؟.
والملاحظة الثانية تتعلق بمصطلح "الطبقة الوسطى" الذي يرد في الكتاب على نطاق واسع من دون أن تضع له المؤلفة تعريفًا محددًا، وهل تختلف امتيازات هذه الطبقة من المواطنين عن امتيازات الطبقة المتوسطة من المقيمين، وخاصة الأشقاء العرب منهم؟.
والملاحظة المنهجية الأخيرة ذات صلة بمصطلح "المواطن الخليجي" المقيم في دبي؛ فقد أصبح مصطلح "خليجي" دارجًا في الأدبيات أخيرًا، وتكرر كثيرًا في هذا الكتاب؛ ولكن الدكتورة رنا لم تبذل الجهد النظري المطلوب للتعريف بمَن هو الخليجي، وما معنى "خليجي" نظريًّا، وعلى أرض الواقع.
وتبقى الإشارة إلى مصطلحات "نموذج دبي الحداثي"، و"دبي الحديثة"، و"الحداثة الدبوية".
والسؤال: هل هناك فعلًا نموذج حداثي دبوي وإماراتي وخليجي مختلف عن الحداثة الغربية؟ جواب كتاب "الحياة في المدينة المذهلة: دبي نموذجًا" يؤكد وجود حداثة خليجية مختلفة، ويتحدث عن نموذج حداثي جديد يُصنع في دبي.
وفي تقديري أن مصطلحي "الحداثة الخليجية"، و"نموذج دبي الحداثي" من أهم إضافات هذا الكتاب، التي تستحق المزيد من التأصيل النظري والمنهجي من الجيل الجديد من الباحثين الخليجيين.
**نقلا عن موقع "مفكرو الإمارات"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة