أكاد أجزم بأن ردات الفعل كانت متوقعة من صانع القرار في دولة الإمارات، على اعتبار أن المشهد يعيد نفسه مع كل قائد عربي.
من مفارقات القضية الفلسطينية أنها شهدت على مر تاريخها "معركة تخوين" مستمرة، لكل من يحاول أن يجد لها حلاً عملياً ينهي من خلاله المشكلة ومعاناة الشعب الفلسطيني الممتدة منذ سبعة عقود. وهو ما يعطي مبرراً لأي عاقل أن يبحث عن الأسباب الخفية وغير المعلنة لهذه المعركة الشرسة، ويكون من حقه أن يشك بأن حل القضية ليس في صالح بعض الأطراف.
ووفق ذلك علينا ألا نندهش من ردة فعل وصراخ كل من تركيا وإيران ضد موقف دولة الإمارات بعد توقيع معاهدة سلام علنية مع إسرائيل، لأن طبيعة الاتفاقية وبنودها أصابت "متاجري" القضية التقليديين وأصحاب الصفقات السياسية في مقتل.
وأكاد أجزم بأن ردات الفعل كانت متوقعة من صانع القرار في دولة الإمارات، على اعتبار أن المشهد يعيد نفسه مع كل قائد عربي يسعى لفك سياسة تأزيم القضية بواقعية ودون خطابات "رنانة"، فقد حصل مثل هذا المشهد مع الرئيس المصري أنور السادات، الذي اغتاله تنظيم "الإخوان المسلمين" بتهمة "الخيانة للقضية"، دون أن يقدموا هم "الإخوان" أي حل لها، بل إن إسرائيل صنفت محمد مرسي عندما كان رئيسا لمصر بأنه "كنز استراتيجي" في دلالة واضحة لحجم الخدمات التي كان من المنتظر أن يقدمها لهم.
هناك نقطتان تتسم بهما قضية استرجاع الحقوق الفلسطينية الأولى: "الاستغلال" أو ما يعرف إعلامياً بـ"المتاجرة السياسية" وهي حالة استمرت معها خلال كل فتراتها، وذلك من خلال إخفاء الأهداف الحقيقية للعديد من السياسيين عن شعوبهم؛ بحيث ينادي كل منهم حسب منطلقاته الفكرية سواء القومية أوالشيوعية أوالإسلامية بالتحرير وإنهاء الاحتلال، لكن الهدف الحقيقي والخفي في أغلب الأوقات هو تلميع صورة القائد والسياسي، وكلما كانت مهاراته في "الكذب السياسي" عالية كلما اعتقد أنه سيحصل على تأييد أكبر من الشارع العربي والإسلامي.
النقطة الثانية: أنه بمجرد استشعار المتاجرين بالقضية أن هناك حلا حقيقيا لها، فإن قائمة الشتائم وخطابات التخوين وحتى فتاوى التحريم تكال على من يفكر في ذلك، بل إن هناك مفردات سياسية تكاد تتكرر مع كل المراحل التاريخية، وهذا دليل أنها شتائم جاهزة ومعلبة وغير قابلة لإعادة التفكير بها، وفقط ينتظرون أي أحد يقدم موقفا إيجابيا ووطنيا يحاول أن يساعد في الخروج من الأزمة التي تزداد تعقيداً مع مرور الوقت من خلاله.. كي تنهال عليه، وذلك ليس خوفاً على مستقبل القدس وفلسطين وإنما قلقاً من خسارة حجم الأرباح، السياسية والاقتصادية التي يحققونها من استمرار معاناة الفلسطينيين.
ومع أن بعض العرب ومن الفلسطينيين أنفسهم اكتشفوا مرات عديدة خطأ تقدير مواقفهم السياسية وحزنوا عليها، وتمنوا لو وافقوا على بعضها، وباتوا يلومون أنفسهم على خسارتها، وكي يكتشفوا مرة أخرى أنهم "خدعوا" بالشعارات الرنانة والأصوات العالية دون محاولة في إدراك تغيرات الواقع السياسي ونتائجه.
إن اعتراض بعض الدول والقوى السياسية على توقيع دولة الإمارات معاهدة سلام مع إسرائيل هو في حقيقة الأمر ليس موقفاً سياسياً، بقدر ما هو شعور بالخوف من قطع أحد أهم مصادر الشرعية السياسية لاستمرار حكومات معينة، و لأنها كذلك مصدر مهم لكسب أصوات انتخابية أو تأييد الرأي العام العربي والإسلامي تجاه مشروعات لأنظمة اعتادت على استغلال العاطفة الدينية للقدس والخلاف العربي الفلسطيني لتحقيق أهدافها، وعليه فإن الموقف التركي والإيراني من الاتفاق ليسا إلا محاولة مكشوفة في دبلوماسية "جمع النقاط"، نحو مشاريعهما التوسعية في المنطقة، والتي لا بد أن تمر عن طريق رفع شعار "تحرير القدس" الذي جعلوه حجة لتدمير الدول العربية وقتل شعوبها.
إن عدم الإيمان بالخطوة الإماراتية هو تكرار لنفس الأخطاء العربية السابقة، لأن أصحابها يبذلون جهداً لطمس الحقيقة وإخفاء الهدف الحقيقي لهذه الخطوة وهو: أن الإمارات قطعت "طريق المتاجرة" بالقضية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة