لا تفاخر الإمارات بتجربتها في احتضان أديان وشعوب وثقافات، وتعتبر الأمر حقا إنسانيا طبيعيا.
في ستينيات القرن المنصرم تساءل أديب فرنسا الكبير ووزير ثقافتها الأشهر في زمن الرئيس شارل ديجول بالقول "هل سيضحي القرن الحادي والعشرين قرنا دينيا بامتياز أم لا؟"
ربما لم يكن يدور بخلد مالرو أن هذا القرن سوف يشهد شكلا من أشكال الانفجار الديني، بل التلاعب على المتناقضات الدينية من الشرق إلى الغرب، ومن الشمال إلى الجنوب.
لم يكن يدور بخلد مالرو أن حقبة مواجهات دينية ستهل لا بين الأديان الإبراهيمية وأتباعها فقط، بل كذلك بين مريدي المذاهب الوضعية، وهؤلاء يصل تعدادهم إلى نصف سكان العالم تقريبا.
لا تفاخر الإمارات بتجربتها في احتضان أديان وشعوب وثقافات، وتعتبر الأمر حقا إنسانيا طبيعيا، غير أن تجربتها تلك تكاد تجعل منها بالفعل "مدينة فوق جبل"، تنير لمن حولها من الدول أنوارا مبهرة تهتك ستر الظلام والأصولية والذهنية الأحادية
انفجر الغرب بالتيارات الدينية اليمينية المتطرفة، تلك التي تتمحور رؤاها حول الاسكاتولوجيا أي قيام الساعة، ومن دون أن تهتم بحياة الإنسان على الأرض، ونشأت من هنا جماعات ذات ملمح وملمس سياسي متطرف، ومن عينة تلك الجماعات المحافظون الجدد، أولئك الذين تناثروا من حول البيت الأبيض في أواخر التسعينيات من القرن الماضي، وكانت تجلياتهم الكبرى سيئة السمعة في زمن بوش الابن لثماني سنوات ذاق العالم فيها طعم القلق والاضطراب.
وفي الشرق الأوسط والعالم العربي اشتد عود التيارات الإسلامية المتطرفة، وبدا وكأن العالم برمته قد أضحى ساحة خلفية لها تحيل نهاره إلى قلق، وتجعل من ليله أرقا، عبر العنف غير المسبوق الذي يؤمن به، والذي وجد طريقه إلى الأرض ليريق الدماء ويهدد الأبرياء من الآمنين.
وما بين هذا وذاك في حقيقة الأمر كان الصدام بين أتباع الأديان الإبراهيمية حتمي لا شك فيه، وقد أجج من نيرانه بعض المنظرين الكبار من أمثال "صموئيل هنتنجتون"، ذاك الذي قسم العالم تقسيما ثنائيا بين جماعة أولى وهي المعسكر الغربي المسيحي اليهودي في مواجهة لا بد منها على حد تقديره مع التجمع الإسلامي الكونفوشيوس الصيني الآسيوي.
على أنه وسط التصادم في الزحام والاحتكاك في الظلام كان هناك صوت عقلاني رصين، هو صوت اللاهوتي السويسري "هانزكنج"، ذلك العلامة الفكري الكاثوليكي، والذي اختلف بعض الشيء مع توجهات حاضرة الفاتيكان وإن بقي على الأصول الثابتة للفكر الإيماني.
غير أن كنج قدم للعالم مشروعا غير مسبوق "مشروع الأخلاق العالمية" وفي القلب منه عبارة ذهبية اعتبرها نواة مشروعة.."لا سلام بين الأمم بدون سلام بين الأديان"، أي أن الشعوب لن تهنأ ولن يعرف الاطمئنان طريقه إليها، إن لم تعرف الأديان كيف تتعايش سوية من دون تناحر أو اقتتال.
يلزمنا هنا الإشارة إلى قضية مهمة وهي أن الأديان بطبيعتها مطلقات، والمطلقات لا تقبل قسمة الغرماء، وعليه فإنه لا بد لاتباعها من سياقات فكرية تكفل لهم الاحترام المتبادل، وخلق مساحة واعية على الأرض للعيش الواحد ولا نقول العيش المشترك.
في هذا الإطار يطفو على السطح الدور الذي تقوم به دولة الإمارات العربية المتحدة على صعيد العيش الواحد بين أتباع جميع الأديان سواء الإبراهيمية أو الوضعية.
حين وضع الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان "طيب الله ثراه" اللبنات الأولى لدولة الإمارات بمبناها ومغزاها الحديث نقول إنه جعل التسامح وقبول الآخر حجرا رئيسيا من أحجار زاوية هذا البناء الجديد، وقد سار من بعده أبناؤه البررة على المنهاج نفسه.
أضحت الإمارات قلعة للتسامح بشهادة القاصي والداني، وهو ما أشار إليه مؤخرا الدكتور على راشد النعيمي، رئيس المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة، وعنده أن حكومة الإمارات أتاحت الحرية الكاملة لجميع المذاهب والأديان أن تبني دور عبادتها وتمارس شعائر دينها بكامل الحرية، فلم يسجل تاريخ الإمارات على مدى نصف القرن الماضي حادثة واحدة تمت لأسباب دينية أو عنصرية، ولم يحدث أن تم منع أصحاب عقيدة أو مذهب من ممارسة شعائر دينهم.. هل من شهادة دولية عالمية تؤكد وتعزز ما قاله الدكتور النعيمي؟
خلال لقاء جرت وقائعه في حاضرة الفاتيكان قبل بضعة أعوام بين بابا الفاتيكان السابق "بندكتوس السادس عشر وبين أول سفيرة لدولة الإمارات العربية المتحدة الشيخة الدكتورة حصة العتيبي، أشار الرجل ذو الرداء الأبيض والأب الروحي لنحو مليار وثلاثمائة مليون كاثوليكي حول العالم، إلى أن المغتربين الأجانب في الإمارات يتم الترحيب بهم، وأن الدولة هناك تبذل جهدها لبسط أجواء من التعايش السلمي والتقدم الاجتماعي لكل البشر، دون تمييز أو تصنيف ديني أو مذهبي.
بابا الفاتيكان في ذلك الوقت شجع وحيا المبادرات المتعددة التي تقوم بها دولة الإمارات في سياق فتح أبواب الحوار واسعة بين أبناء الأديان الإبراهيمية بنوع خاص، بوصفهم سكان الشرق الأوسط، تلك المنطقة التي عرفت صراعات كثيرة من جراء تناحر غير محبوب أو مرغوب على أسس دينية.
أضحت الإمارات في نظر الكرسي الرسولي دولة تقوم برسالة استثنائية ترمي بخاصة إلى الحفاظ على الإيمان بالله وتعزيز الحوار بين الثقافات والأديان.
حين نعود إلى بطون التاريخ فإننا نجد صفحات بيضاء ناصعة تنبئنا بأن التسامح في الإمارات "عادة تكاد أن تكون عبادة" منذ أزمنة بعيدة وقبل مولد دولة الإمارات في ثوبها الحديث، ما يعني أن جينات التسامح في النفس الإماراتية أصيلة وليست مستحدثة.
أحسن الدكتور النعيمي حين أشار، الأيام القليلة الماضية في كلمته بالمؤتمر السادس لزعماء الأديان العالمية والتقليدية، إلى أن التنوع والتعددية في الإمارات جعلا منها واحة أمن وسلام ونموذجا للتنمية في العالم.
عرفت الإمارات فكرة المواطنة منذ نشاتها عام 1971، وفي أجواء المواطنة يكون قبول الآخر أمرا واجب الوجود، بغض النظر عن جنس أو لون دين أو عرق هذا الآخر، وبخاصة أن الإقصاء لا يفتح إلا باب الأزمات والصراعات.
لدى الإماراتيين رغبة حقيقية تتجدد كل صباح في الخروج بالأجيال الجديدة من دائرة الصراعات الدوجمائية العقيمة، وفتح آفاق العيش المشترك لهم لينعموا بالأمن والسلام.
تبدو الدولة الإماراتية فتية وعفية، تأخذ بأيدي مواطنيها عبر إلزام القانون الذي يتوجب من الجميع احترامه، وهذا ما يدلل على قوة حضور دولة الإمارات في القوانين التي أصدرتها وطبقتها بحسم وحزم، وفي المقدمة منها قانون مكافحة الكراهية وتجريم التمييز ونبذ ازدراء الأديان الذي أصدره الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس دولة الإمارات، والذي يعد الأول من نوعه في العالم، وبعده بدأت ألمانيا وفرنسا وبريطانيا والاتحاد الأوروبي التفكير في إصدار قوانين مماثلة.
من دون تهوين أو تهويل، قد لا يوجد برنامج وطني للتسامح مؤسس على قواعد الدستور والقانون كذلك الذي يوجد في الإمارات، ويحظى برعاية الدولة والشعب معا.
نعم لقد انتشر فيروس التسامح بين المواطنين، وهذا ما يميز التجربة الإماراتية في حوار أتباع الأديان، إذ إنها لم تعد تجربة النخبة والانتلجنسيا فقط، بل بلغت حدود المواطنين على اختلاف درجاتهم ومستوياتهم الفكرية، وهذا هو النجاح الحقيقي في أن يكون التسامح وقبول الآخر مفهوما ما شعبويا وليس نخبويا فحسب.
لا تفاخر الإمارات بتجربتها في احتضان أديان وشعوب وثقافات، وتعتبر الأمر حقا إنسانيا طبيعيا، غير أن تجربتها تلك تكاد تجعل منها بالفعل "مدينة فوق جبل"، تنير لمن حولها من الدول أنوارا مبهرة تهتك ستر الظلام والأصولية والذهنية الأحادية تلك التي أدت بنا إلى المشهد المؤلم الحالي.
أحلى الكلام.. مع الإمارات نعم هناك أمل.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة