في الثاني من ديسمبر/كانون الأول، يطلّ عيد الاتحاد الرابع والخمسون، ويطلّ معه ذاك الدفء القديم الذي يسكن القلب منذ الطفولة.
فما زلت أتذكر أعلام الإمارات وهي تخفق في الطرقات، تملأ السماء ألوانًا وتملأ الروح يقينًا بأن هذا الوطن أكبر من مجرد مكان؛ إنه حضن يجمعنا جميعًا، مواطنين ومقيمين، كبارًا وصغارًا، ويلفّنا في لحظة واحدة من الانتماء والفخر والحب.
يأتي عيد الاتحاد الرابع والخمسون، والإمارات أكثر زهوًا وتألقًا. السنوات تمضي، لكن الوطن يمضي أسرع في طريق النمو؛ ففي كل صباح تفتح البلاد صفحة جديدة في التنمية والنهضة، تُعمّق استقرار الإنسان وتُعلي من شأنه وكرامته. وما يميز هذه المرحلة هو تلك السكينة التي تبثها القيادة الحكيمة في النفوس، قيادة تنظر لكل فرد بعين الرعاية والمحبة، وتؤمن بأن ازدهار الإنسان هو جوهر المشروع الوطني كله.
منذ انطلاقة المسيرة المباركة عام 1971، وضع المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، "طيب الله ثراه"، الأساس لرؤية لا تزال تنبض بالحياة حتى اليوم. رأى زايد أن الإنسان هو البوصلة، وأن بناء الدولة يبدأ ببناء الإنسان. واليوم يُكمل صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، "حفظه الله"، هذه المسيرة بإيمان راسخ بأن الاتحاد أعظم إنجاز في تاريخ الإمارات، وأن الحفاظ عليه وتطويره مسؤولية مشتركة تتوارثها الأجيال.
ولم يكن احتفال الإمارات بعيد الاتحاد هذا العام احتفالاً رمزيًا، بل شهادة جديدة على ريادة وطن يواصل ترسيخ مكانته في الإقليم والعالم. ففي عام 2025 عززت الإمارات حضورها الدبلوماسي الفاعل، مسهمةً في جهود إنهاء الحرب على غزة، وداعمةً لمسار سياسي يقوده المدنيون لوقف الصراع في السودان، كما سعت لخفض التوتر بين الهند وباكستان، وبين إيران وإسرائيل، وكانت منصة للحوار بين أرمينيا وأذربيجان، واستمرت وساطتها بين روسيا وأوكرانيا عبر سبعة عشر جولة تبادل خلالها 4641 أسيرًا. وبالتوازي، سجلت حضورًا بارزًا في قمم دولية كبرى.
وعلى الصعيد الاقتصادي، حافظت دولة الإمارات على موقعها كأحد أسرع الاقتصادات نموًا في العالم، مع توقعات صندوق النقد الدولي بتحقيق نمو بنسبة 4.8%. وبلغت التجارة الخارجية غير النفطية في النصف الأول من العام 1.7 تريليون درهم، فيما أقرّت الدولة أكبر ميزانية اتحادية في تاريخها لعام 2026 بقيمة 92.4 مليار درهم، وأطلقت الاستراتيجية الوطنية للاستثمار 2031، وبرنامج "الإمارات مركز عالمي للتجارة"، ليجذب ألف شركة دولية.
أما القطاع السياحي فحقق أرقامًا لافتة، إذ ارتفعت مساهمته في الناتج المحلي إلى 257.3 مليار درهم، واستقبلت المنشآت الفندقية 16.1 مليون نزيل خلال النصف الأول، إضافة إلى فوز شيخة ناصر النويس بمنصب الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة للسياحة. كما شهدت الدولة مشاريع نوعية، ومتاحف بارزة تعزز الحضور الثقافي للدولة.
وتابعت الإمارات تحديث منظومتها التشريعية بإطلاق قوانين جديدة تتعلق بالأمن المجتمعي والخدمات، من إنشاء الجهاز الوطني لمكافحة المخدرات، إلى الهيئة الاتحادية للإسعاف والدفاع المدني، وقانون أحوال شخصية جديد، إلى جانب منظومة تشريعية ذكية تعتمد على الذكاء الاصطناعي. وشهد العام 2025 استراتيجيات بعيدة المدى في الأمن السيبراني، واستقطاب المواهب، وتصفير البيروقراطية، وتنظيم التطوع، وتعزيز نمو الأسرة ضمن رؤية 2031.
إن ريادة الإمارات في العمل الإنساني تظل علامة فارقة في مسيرتها؛ فقد حافظت على موقعها بين أكبر المانحين عالميًا، وقدمت مساعدات بقيمة 1.46 مليار دولار، وأكثر من 9.4 مليارات درهم لغزة منذ بداية الأزمة، إلى جانب مساعدات كبرى للسودان واليمن ودول عديدة حول العالم.
وفي التنافسية العالمية تبوأت الإمارات مركزًا ضمن الخمسة الكبار عالميًا، وتصدرت العالم للعام الرابع في مؤشر ريادة الأعمال، وجاءت في المرتبة العاشرة عالميًا في مؤشر القوة الناعمة لعام 2025.
أما في المجال البيئي، فواصلت الإمارات جهودها في حماية الطبيعة من خلال توسعة المحميات، ومشاريع الطاقة الشمسية والرياح والهيدروجين. وفي رحلة التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي، سجلت الدولة تقدمًا لافتًا، إذ بلغت نسبة استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي 97%، وتجاوز عدد المبرمجين 450 ألفًا، وشهد العام إطلاق مجمع الذكاء الاصطناعي الإماراتي-الأمريكي بسعة 5 جيجاوات، وإطلاق مبادرة عالمية بمليار دولار لدعم مشاريع الذكاء الاصطناعي في أفريقيا.
إن هذه الإنجازات ليست سوى امتداد طبيعي لفلسفة الاتحاد، ذلك المشروع الحضاري الذي ربط الماضي بالمستقبل، وحوّل التحديات إلى فرص، وجسّد فكرة أن الوحدة ليست قرارًا سياسيًا فحسب، بل رؤية تنموية شاملة تعزز الهوية الوطنية، وتحمي القيم الإسلامية والعربية، وتمنح الإنسان مكانته المستحقة. لقد استطاع الاتحاد أن يصنع دولة قوية، مرنة، واثقة، تجمع بين القوة الناعمة والصلبة، وتقدّم نموذجًا أخلاقيًا وسياسيًا واقتصاديًا ملهمًا في عالم مضطرب.
واليوم، في عيد الاتحاد، نجدد العهد بأن نحمل هذه الراية كما حملها المؤسسون، وأن نغرس في الأجيال القادمة الإيمان بأن الإخلاص للاتحاد هو الإخلاص للمستقبل، وأن الحفاظ على قيمه هو الحفاظ على وطنٍ يحتضن الجميع ويمنحهم فرصة العطاء والإبداع.
كل عام والإمارات قيادةً وشعبًا ومقيمين بألف خير. وكل عام والوطن يزهو بقلوب أبنائه، ويتقدم بثقة نحو آفاق أرحب، لتظل الإمارات، كما كانت دائمًا، منارة سلام وتنمية وإنسانية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة