في مقاله المنشور بصحيفة وول ستريت جورنال يوم الأربعاء 26 نوفمبر، حاول قائد الجيش السوداني عبدالفتاح البرهان ارتداء جبة رجل الدولة الذي يقاتل دفاعًا عن الشعب والوطن. غير أنّ ما كتبه لم يكن شهادة تليق بالتاريخ، بل محاولة فجّة لتزويره وإعادة ترتيبه على هواه.
فالحقيقة التي يعرفها السودانيون، وكل من تابع مسار السنوات الأخيرة، أنّ البرهان لا يخوض حربه من أجل وطن أو انتقال ديمقراطي، بل من أجل الكرسي؛ ذلك الكرسي الذي يرفعه الإخوان على أكتافهم، ولو كان الثمن تمزيق السودان واستنزاف شعبه.
قدّم البرهان نفسه في مقاله للغرب بوصفه فاتح بوابة السودان لاتفاقات أبراهام، ولوّح لإسرائيل بموافقته عليها كشهادة حسن سلوك سياسي. لكنّ روايته تنهار عند أول حقيقة يتجاهلها: أنّ تحالفه الداخلي يضم كتائب متطرفة وإرهابية تتباهى بأن معركتها القادمة “تحرير القدس” ومحاربة إسرائيل.
فأي منطق سياسي يجمع بين توقيع سلام مع دولة نهارًا واحتضان مليشيات تتوعد بحرب مقدسة ضدها ليلًا؟ هذا ليس فن الممكن، بل مقامرة خطرة تُقام فوق دماء السودانيين.
وتتعمّق المفارقة حين يتزيّا البرهان بلبوس الاعتدال، بينما يقف على رأس تحالف نادر المثال في كافة أنحاء العالم: مليشيات سنية متطرفة، وكتائب إخوانية لفظها الشارع، وجماعات متشددة تجد دعمًا مباشرًا من الحرس الثوري الإيراني. فكيف يحدّث العالم عن “استقرار” وهو يسلّم السودان لأقصى تيارات التطرّف المسلحة، محوّلًا البلاد إلى ساحة مفتوحة لصراعات الآخرين؟
يسهب البرهان في مخاطبة الغرب عن التزامه بالانتقال الديمقراطي، رافعًا راية الإصلاح كما لو كان قائدًا ثوريًا.
غير أنّ تاريخه يناقض قوله: ألم ينقلب على الحكومة المدنية برئاسة الدكتور عبد الله حمدوك في 25 أكتوبر 2021؟ تلك الحكومة التي كانت آخر نافذة يمكن أن يعبر منها السودان نحو مستقبل أجمل؟ وها هو اليوم يقود حربًا تحرق المدن وتشرد الملايين، ثم يزعم أنها حرب “من أجل الدولة”. فأي دولة تُحمى بتهجير شعبها وتدمير عمرانها؟
وفي حين يروّج إعلامه أسطورة “العدوان الخارجي”، يمضي البرهان في طلب الدعم ذاته الذي يزعم أنه يواجهه؛ يطوف العواصم، يرسل الوفود سرًا وعلانية، مستعطفًا أي جهة تمدّه بمال أو سلاح أو جرعة شرعية. فالحرب بالنسبة له ليست دفاعًا عن الوطن، بل وسيلة لتمديد عمر سلطة يعرف أنها تتآكل.
فالبرهان لا يدير دولة، بل يقف فوق ركام من التناقضات: إخوان أسقطتهم ثورة الشعب، ومليشيات قبلية متناحرة، وجماعات عقائدية لا يجمع بينها مشروع. تحالف يعيش بالحرب، ويموت إن صمتت البنادق. ولهذا لا يقترب من أي حلّ سياسي حقيقي؛ لأن نهاية الحرب تعني نهاية حكمه.
ويبلغ الخطاب ذروة المفارقة حين يختم البرهان مقاله بالدعوة إلى “قول الحقيقة بلا رتوش”. وهي عبارة، حين تأتي منه، تتحول إلى نكتة سياسية سمجة. فالحقيقة التي يتهرب منها أنه لم يشعل الحرب دفاعًا عن الشعب أو الوطن، بل تمهيدًا لعودة الإخوان إلى الحكم، وإعادة إنتاج نسخة أكثر قبحاً من نظام عمر البشير بوجه جديد.
لم يعكس مقاله صورة القائد الواثق التي أرادها، بل كشف ارتباك رجل تتداعى الأرض من تحته: الهزائم تلاحقه ميدانيًا، المواقف الإقليمية تتبدل أمامه، والدعم السياسي الغربي يتلاشى. بدا أقرب إلى قائد مليشيات يتوسل شرعية مفقودة، لا قائد جيش وطني يتحدث من موقع الثبات.
ويبلغ الوهم قمّته حين يتخيّل البرهان أن مقال رأي في صحيفة غربية كفيل بمحو الذاكرة العامة، أو طمس جرائم موثّقة، أو التستر على استخدام أسلحة كيميائية محرمة دولياً ضد المدنيين.
إنه خواء الحكم العسكري: وحين يلتقي الخواء بضيق الأيديولوجيا الإخوانية، كما يحدث اليوم في السودان، لا يلوح في الأفق سوى الخراب لغةً وحيدة. ولا يبقى للوطن، عندها، إلا أن يُدفع إلى ركام صامت ينتظر من يكتب تاريخه الحقيقي من بين أنقاضه .. لا من بين أصابع الذين أشعلوا المأساة واحتكروا روايتها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة