في يوم من أيام السودان الجميلة، ولدت أغنية خالدة من قلب شاعر عاشق اسمه الهادي آدم، أحب امرأة وأحب وطنه، فكتب كلماته بدم القلب قبل الحبر، وغنتها أم كلثوم بصوتها الذي لا يُنسى: “أغداً ألقاك؟”..
لتتحوّل القصيدة إلى نشيد للحب والانتظار، وإلى رمز لزمن كانت فيه السودان تنبض بالحياة، فناً وأدباً وذوقاً وجمالاً.
كان السودان يومها مدرسةً في الأدب والفكر، ومنارةً في العلم والتسامح. في الخرطوم كان الشعراء يلتقون على ضفاف النيل يتبادلون القصائد كما يتبادل العشاق الورد، وكانت الإذاعة السودانية تخرج من بين أنغامها أصواتاً كالعسل، تفيض بالعروبة والوجدان. كان السودان يُدرّس للعرب معنى البساطة الممزوجة بالكرامة، والطيبة المقرونة بالعزة.
لكن لعنةً سوداء حطّت على تلك الأرض الطيبة، فاختطفها فكر “الكيزان” جماعة الإخوان المسلمين الذين لوّثوا نقاءها، وبدّلوا وجهها المشرق إلى ملامح من وجعٍ وتشدّد. صار بلد الشعر والغناء مسرحاً للتطرف، وملاذاً للإرهاب، وموطناً للقاعدة والتنظيمات المتوحشة التي هربت من كل الأصقاع لتجد في الخرطوم ملاذاً، وفي الفكر الإخواني تبريراً.
ذبل الفن، خفت صوت المثقفين، وهاجر العلماء والمبدعون. انكسر السودان الذي كان يصدّر الجمال إلى العرب، وصار يصدّر مآسيه إلى نشرات الأخبار.
ومع ذلك، يبقى الأمل حياً. فالشعوب الأصيلة لا تموت، وإن مرت بعصورٍ من العتمة. في كل بيت سوداني ما زال هناك من يحفظ شعر الهادي آدم، ومن يسمع أم كلثوم بصوتٍ خافت، ومن يردد في قلبه: “أغداً ألقاك يا سودان بخير؟”
نعم، سنلقاك بخير، لأن السودان الحقيقي ما زال يعيش في ذاكرة أبنائه، وفي أرواح العرب الذين أحبّوه. سيعود السودان حين يُكسر قيد الأيديولوجيا، ويُفتح الباب من جديدٍ أمام الفن والحرية والعلم. سيعود كما كان، بل أجمل، لأن الشعوب التي تغنّت يوماً بالحب قادرة على أن تبعث نفسها من رماد الكراهية.
حتى ذلك الحين، سنظل ننتظر الغد كما انتظرته أم كلثوم على المسرح، وكما حلم به شاعرٌ سودانيٌّ ذات مساء، وهو يكتب للوطن والمرأة والحياة:
“أغداً ألقاك؟”
نعم يا سودان… سنلقاك بخير.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة