انتخابات بريطانيا.. منافسة ساخنة على ميراث اقتصادي كئيب
تسيطر ملفات الاقتصاد الثقيلة على الانتخابات التشريعية المبكرة التي تجري اليوم في بريطانيا، وسط أجواء تنافس ساخن بين حزبي المحافظين والعمال، ومخاوف من أعباء ميراث كئيب تجرعته البلاد على مدار سنوات من التقشف وضعف النمو.
وقدم رئيس الوزراء المحافظ ريشي سوناك، الأسبوع الماضي، البرنامج الانتخابي لحزبه، مدعوما بالبيانات الأخيرة التي تظهر أن الاقتصاد البريطاني خرج من الركود بقوة أكبر مما كان متوقعا في بداية العام، وقال "لقد تجاوز اقتصادنا منعطفا حقيقيا، والتضخم تباطأ بشكل كبير".
وكانت البيانات الصادرة أظهرت أن أسعار المستهلكين ارتفعت بنسبة 2% في مايو/أيار مقارنة بالعام السابق، لتلامس هدف بنك إنجلترا للمرة الأولى منذ عام 2021، وكان هذا أيضا أقل بكثير من 11.1% في أكتوبر/تشرين الأول 2022، عندما بدأ سوناك رئاسته للوزراء.
ويزعم العديد من الاقتصاديين أن الأمر سيستغرق أكثر من بضعة مؤشرات اقتصادية جيدة لتغيير المسار الاقتصادي في بريطانيا بعد أكثر من عقد من النمو الاقتصادي البطيء، والإنتاجية الضعيفة بشكل مزمن، والضرائب المرتفعة والخدمات العامة المتعثرة، في ظل خدمة الصحة الوطنية التي تعاني من نقص التمويل والإرهاق بشكل ملحوظ.
وتشير استطلاعات الرأي إلى وجود رغبة في طرد حزب المحافظين الحاكم من داونينغ ستريت، بعد 14 عاما، في الانتخابات العامة الشهر المقبل.
ولكن المشرعين في حزب العمال المعارض حذروا بالفعل من أنهم -في حال فوزهم- سيرثون اقتصادا متعثرا مع مساحة ضئيلة لإجراء تغييرات جريئة، والسؤال.. كيف وصلت بريطانيا إلى هنا؟
التركيز على التقشف
عندما وصل حزب المحافظين إلى السلطة في عام 2010 كانت البلاد تعاني أزمة مالية كبيرة، فقد قفزت الديون إلى مستويات أعلى، وبلغ العجز في ميزانية البلاد أعلى مستوياته.
وقد ألقى ديفيد كاميرون، رئيس الوزراء آنذاك، ومستشاره جورج أوزبورن، العبء الثقيل على خفض الإنفاق الحكومي، بدلا من زيادة الضرائب، وما تلا ذلك كان سنوات من التقشف، إذ واجهت الإدارات الحكومية تخفيضات ضخمة في ميزانياتها.
وتم تخفيض الإنفاق على الخدمات مثل المحاكم والمكتبات والنقل الجماعي، ولكن تم أيضا خفض الميزانيات المخصصة للاستثمارات، مما أدى إلى إبطاء أو إيقاف صيانة وبناء المدارس والمستشفيات والسجون,، وتم خفض الإعانات المقدمة للعاطلين عن العمل وذوي الدخل المنخفض بشكل كبير.
وقالت آنا فاليرو، الخبيرة الاقتصادية في كلية لندن للاقتصاد، إن بريطانيا "كان لديها برنامج تقشف شديد للغاية"، مع سياسات عميقة للغاية، وبالتالي "تعرقل التعافي".
وبالنسبة للعديد من الاقتصاديين تميزت الأعوام الأربعة عشر الماضية بنمو الإنتاجية الراكد في بريطانيا، وحجم الناتج الاقتصادي لكل ساعة عمل لم يتزحزح إلا بالكاد، وهو المحدد الرئيسي لمستويات المعيشة، إذ ترتفع الأجور مع تحسن الإنتاجية.
وفي بريطانيا، أصبحت الأجور -بمجرد تعديلها وفقاً للتضخم- عند المستوى نفسه الذي كانت عليه في نهاية عام 2007 تقريباً.
وهذا العقد ونصف من نمو الأجور المفقود كلف العامل العادي 10700 جنيه استرليني سنويا، وفقا لمؤسسة ديسيجن وهي منظمة بحثية، وتشير تقديرات المركز البحثي إلى أن البريطانيين من ذوي الدخل المتوسط أفقر بنسبة 20% من أقرانهم في ألمانيا، وأفقر بنسبة 9% من نظرائهم في فرنسا.
تأثير خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي
وعلى الرغم من أن التأثير الاقتصادي لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لا يزال قائما، فإن بعض تكاليف هذا القرار واضحة بالفعل، وأدت سنوات من عدم اليقين السياسي في حكومة تيريزا ماي إلى توقف الاستثمار في الأعمال التجارية.
كما أدى الترتيب الجديد مع الاتحاد الأوروبي إلى إقامة حواجز تجارية عبر أغلب الصناعات، الأمر الذي جعل توفير العمل أكثر صعوبة وأكثر تكلفة للجميع، من الصيادين الاسكتلنديين إلى المصرفيين في لندن.
وقالت فاليرو إنه بدلاً من الاستثمار في البنية التحتية والابتكار والمهارات كانت الحكومة البريطانية مشتتة بسبب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لفترة طويلة.
وتشير إلى أنه "إذا كان الجميع مهتمين بكيفية تنفيذ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وكيفية إنجاحه وكل التداعيات السياسية المترتبة عليه فإن الناس بالطبع سيكون لديهم اهتمام أقل للتركيز على هذه القضايا طويلة المدى".
ضرائب دون خدمات
وتركت فترة طويلة من انخفاض الاستثمار والضغط على الإنفاق العام شعوراً لدى الكثيرين بأن بريطانيا محطمة، وعلى الرغم من العبء الضريبي الأثقل منذ 70 عاما فإن العديد من الخدمات العامة تبدو على حافة الانهيار.
وهناك أكثر من سبعة ملايين حالة في هيئة الخدمات الصحية الوطنية على قائمة الانتظار، وتعاني الرعاية الاجتماعية من نقص شديد في التمويل ونقص في الموظفين، والإنفاق على كل طالب في المدرسة هو نفسه الذي كان عليه قبل 14 عاما، وعلى الرغم من انخفاض معدلات البطالة فقد حدثت زيادة حادة في عدد الأشخاص الذين خرجوا من قوة العمل بسبب اعتلال الصحة على المدى الطويل.
وتعتبر قائمة التحديات طويلة ومتنوعة، فتراكم القضايا أمام المحاكم يعني فترات انتظار طويلة للمحاكمات الجنائية، وهناك نقص في المساكن ذات الأسعار المعقولة، والإيجارات وصلت إلى مستوى قياسي.
والبيروقراطية المرهقة وقوة السلطات المحلية لا تمنع بناء المساكن فقط، ولكنها تمنع أيضا البنية التحتية للطاقة الخضراء ومراكز البيانات والمختبرات.
كما تضاعف عدد الأشخاص الذين يستخدمون بنوك الطعام في السنوات الخمس الماضية وتعطلت وسائل النقل العام بسبب الإضرابات ونقص الموظفين وسوء الصيانة، وهناك شكاوى لا نهاية لها حول الحفر في جميع أنحاء البلاد.
تجربة ليز تراس
ومما زاد الطين بلة كانت فترة رئاسة ليز تراس للوزراء خلال 49 يوما.
وشرعت تراس في تغيير السياسة الاقتصادية لبريطانيا فقط لجعل المستثمرين يرفضون أفكارها ويجبرونها على التراجع والاستقالة في نهاية المطاف.
كان لدى تراس التشخيص الصحيح -الحاجة إلى نمو اقتصادي أسرع على المدى الطويل- ولكن الدواء الخاطئ هو ما قدمته لمشكلة بريطانيا.
وأعربت عن أملها في تعزيز الاقتصاد عن طريق خفض الضرائب والاقتراض بكثافة للقيام بذلك، في أعقاب مبالغ كبيرة من الإنفاق لدعم الأسر خلال الصدمات الاقتصادية الناجمة عن الوباء وأزمة الطاقة بعد الحرب في أوكرانيا.
وقد حطمت سمعة حزب المحافظين فيما يتعلق بالإدارة المالية الجيدة، ومنذ ذلك الحين ركزت سياسة كلا الحزبين السياسيين الرئيسيين على إظهار ضبط النفس.
وتعهد الطرفان بعدم رفع معدلات الضرائب الثلاثة الكبيرة في بريطانيا: ضرائب الدخل الشخصي، والتأمين الوطني، وضريبة القيمة المضافة، وهي نوع من ضريبة المبيعات، ولكن العديد من الناس سوف يجدون أنفسهم يدفعون ضرائب أعلى مع زيادة أجورهم، وهو ما من شأنه أن يسحبهم إلى الشرائح الضريبية الأعلى، التي سوف تظل مجمدة لعدة سنوات أخرى.
مستويات ديون مرتفعة
ووفقا لتقرير نشرته رويترز، ارتفعت مستويات الدين العام في بريطانيا، مثل مستويات العديد من البلدان الأخرى، بشكل كبير بسبب التكاليف الهائلة لجائحة كوفيد وارتفاع أسعار الطاقة، وتشير توقعات صندوق النقد الدولي إلى أنها ستستمر في الارتفاع كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي.
وقال صندوق النقد الدولي هذا الأسبوع إن بريطانيا والولايات المتحدة وإيطاليا والصين "في حاجة ماسة إلى اتخاذ إجراءات سياسية لمعالجة الاختلالات الأساسية بين الإنفاق والإيرادات".
ويعد كل من المحافظين وحزب العمال بضمان أن التوقعات الرسمية تشير إلى انخفاض عبء الديون عند نهاية فترة خمس سنوات متجددة، ولو باستخدام مقياس مختلف قليلا عن مقياس صندوق النقد الدولي، على الرغم من أن تحقيق مستويات منخفضة من الديون يبدو أمراً صعباً، للمطالبات بمزيد من الإنفاق والوعود الضريبية التي قطعها الحزبان.
aXA6IDEzLjU4LjIwMC43OCA= جزيرة ام اند امز