تمضي فصول الحرب الروسية - الأوكرانية نحو مزيد من التصعيد دون أي أفق بنهاية قريبة لها.
فالعملية العسكرية الروسية التي بدأت في فبراير/ شباط العام الماضي، تحولت إلى حرب روسية - أطلسية على الوجود في الساحة الأوكرانية، والعملية التي توقع كثيرون أنها ستنتهي سريعا بسيطرة روسيا على العاصمة الأوكرانية كييف سرعان ما تحولت إلى حرب مقاطعات ومدن، ومع إطالة عمر هذه الحرب بتنا أمام مؤشرات جديدة للتصعيد، لعل من أهمها، الهجمات المتبادلة بالطائرات المسيرة على عاصمتي بالبلدين، ومحاولة نقل المواجهة إلى مقاطعة بيلغورود الروسية الحدودية.
كل ذلك في ظل تناقض مواقف الأطراف المتصارعة دون وجود أي أفق أو مبادرة تشي بقرب حل سياسي لهذه الأزمة، فلسان حال الغرب وجناحه العسكري، حلف الناتو، يقول إنه سيواصل دعم كييف بالأسلحة والمعدات العسكرية حتى النهاية، والرئيس الأوكراني زيلنيسكي يقول إنه لا يريد سوى السلاح لمواصلة القتال إلى ما لا نهاية، فيما موسكو التي ضمت العديد من المقاطعات الأوكرانية تقول إنها لن تتنازل عن أي مكاسب حققتها خلال الحرب وأنها متمسكة بثوابتها حتى النهاية، في وقت تصر أوكرانيا على أنه لا حل دون استعادة كافة الأراضي التي سيطرت عليها روسيا، بما في ذلك شبه جريزة القرم التي ضمتها موسكو عام 2014.
حرب المسيرات المتبادلة من قبل الطرفين اكتسبت أبعادا نفسية، واستهداف العاصمتين له رمزية سياسية أكثر من ما هي قيمة حربية في الميدان، كما أن نقل الحرب إلى المقاطعات الحدودية الروسية، لاسيما بيلغورود باتت استراتيجية أوكرانية لتحقيق جملة من الأهداف، لعل أهمها، خلق حالة من الفوضى في المناطق الحدودية، وإظهار القدرة على أنها قادرة على الوصول إلى الداخل الروسي، والأهم قطع أو الحد من الإمدادات العسكرية الروسية إلى الداخل الأوكراني عبر هذه المناطق، وإشغال القوات الروسية في الداخل، ربما تمهيدا للهجوم الاستباقي الذي تحدثت كييف طويلا عنه، فضلا عن إيهام بوجود معارضة روسية في الداخل الروسي لحكم الرئيس بوتين من خلال التنصل من التوغلات والهجمات التي تطال المناطق الحدودية الروسية.
ولعل كل ذلك يشد من عصب موسكو، ويدفعها إلى شن هجمات كثيفة بالمسيرات على العاصمة كييف، وضرب المقار والمراكز الحكومية والعسكرية هناك، فضلا عن استهداف منظومة باتريوت الأمريكية التي زودت واشنطن كييف بها مؤخرا .. وهكذا تمضي فصول الحرب الروسية - الأوكرانية، وتنتقل من مرحلة إلى أخرى، حاملة معها مخاطر جمة ليس على البلدين فحسب بل على العالم أجمع، حيث تشتد معركة البحث عن الطاقة وتأمين الغذاء والدواء والاستقرار.
في الواقع، من الواضح أن هدف التصعيد المتبادل بالمسيرات بين موسكو وكييف، هو محاولة كل طرف التأثير على الجانب النفسي للآخر، والسعي إلى تسوية ممكنة بشروطه، وربما خلق واقع ميداني جديد في الحرب المتواصلة بينهما، ولعل ما يشجع على المضي في هذا النهج، هو تأزم العلاقات الأمريكية - الروسية لاسيما بعد إعلان واشنطن وقف تزويد موسكو ببيانات عن وضع وموقع أسلحتها النووية وفق معاهدة نيو ستارت لنزع السلاح النووي بعد أن علقت روسيا عضويتها في المعاهدة، وكذلك وصول العلاقة الروسية - الأطلسية إلى نقطة حرجة، خاصة في ظل إصرار الناتو على التوسع شرقا، وضم دول جديدة إلى عضويته، حيث سيشكل انضمام السويد إلى هذه العضوية، كما هو مقرر خلال القمة المقبلة للحلف في الشهر المقبل، محطة فاصلة في هذا الصراع، إذ سيحول ضم السويد بحر البلطيق إلى بحر تحت سيطرة الناتو، كما سيتيح له فرض ما يشبه الحصار على العديد من المناطق والمدن الروسية، لاسيما يطرسبورغ، وقطع الصادرات النفطية الروسية، الأمر الذي يعني تطوير القدرات العسكرية والتكنولوجية لحلف الناتو في صراعه مع روسيا التي نصبت في الجهة المقابلة صواريخ إسكندر القادرة على ضرب العواصم الأوروبية.
من الواضح، أن أزمة أوكرانيا أوصلت الصراع بين الأطلسي وروسيا إلى نقطة حرجة، على شكل صراع على الوجود في ظل إصرار الغرب على إلحاق هزيمة بروسيا بوتين، فيما يخبرنا التاريخ أن روسيا قادرة على الصمود في حروب طويلة وحتى تحقيق انتصارات في لحظة انكسارها، والسؤال هل وصل الصراع بينهما إلى نقطة اللاعودة أم أن الحسابات تحمل في طياتها تسوية ممكنة على غرار ما جرى خلال أزمة عام 1962؟ تلك الأزمة التي عرفت بأزمة الصواريخ السوفياتية في كوبا، والتي كادت أن تشعل حرب عالمية ثالثة بين روسيا والناتو لولا التسوية التي حصلت بين موسكو وواشنطن.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة