لماذا تصر الدول الغربية ومعها الأمم المتحدة على ترسيخ سلطة السيد السيستاني على العراق، وتحرص أن تجدد البيعة له؟
يوم أمس الأول؛ الإثنين 11 نوفمبر 2019، وفي مشهد فريد أمام أحد بيوت مدينة النجف القديمة في بلاد الرافدين، وقفت سيدة أوروبية ترتدي حجابا أسود كاملاً كاسياً ساتراً، تلقي بتصريحات لوسائل الإعلام الدولية، ظننتها زوجة من سيدات المجتمع المخملي، تسعى للصلح بينها وزوجها، فذهبت لفقيه أو واعظ ليقوم بهذه المهمة، وإذا بها الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة في العراق "جانين هينيس بلاسخارت"، تلك السيدة الشهيرة التي كانت أول وزيرة للدفاع في هولندا، خلال الفترة ما بين 2012 و2017، وهي الفترة التي شهدت ظهور داعش، ومن ثم كانت تشرف على قوات بلادها المشاركة في الحرب على التنظيمات الإرهابية في دول الساحل والصحراء الأفريقية، وكذلك في أفغانستان والعراق.
السؤال الأهم: هل الغرب لا يريد نظام ولاية الفقيه في إيران؟ وإن كان ذلك فلماذا الحرص على إعادة خلق النظام نفسه في العراق من خلال إعطاء الشرعية والسيادة "للمرجع الديني الأعلى"؟
السيدة "بلاسخارت" سياسية محنكة كانت نائبة في البرلمان الهولندي خلال 2010-2012، ونائبة في البرلمان الأوروبي بين عامي 2004 و2010، لم تتخلَّ عن علمانيتها الراسخة في ثقافة وطنها هولندا، وفي حضارة قارتها الأوروبية، ولم تكن من دعاة الحكم الثيوقراطي؛ الذي يضع إدارة أمور الدول والمجتمعات في يد كهنة الدين الغامضين المتوارين عن الناس لرسم صورة خرافية أسطورية، تدخل الرهبة في قلوب الأتباع فينقادون بدون عقل أو تفكير خوفا من سحر الغموض وخفاء الكهنوت، الذي يوظف القدرات الخارقة المنسوبة للدين في الدنيا والآخرة لترسيخ الطاعة العمياء في القلوب والعقول.
وحين تأكدت أن هذه السيدة لم تأتِ من تلقاء نفسها لزيارة رجل دين غامض، لم يسمعه أحد، ولم يقرأ أحدٌ له كتاباً، ولم يره الناس عياناً بياناً، وكل ما يعرفوه عنه خطب يلقيها ممثل عنه، لا يعرف أحد على وجه اليقين هل هو كاتبها أو قائلها، أم أنها جاءت من وراء الحدود الشرقية للعراق، حين تبينت الحقيقة القطعية أن السيدة "بلاسخارت" جاءت إلى مقر المواطن الإيراني السيد السيستاني في النجف الأشرف ممثلة للأمين العام للأمم المتحدة، برسالة سياسية دولية تسعى لمعالجة أزمة سياسية بين حكومة العراق وشعب العراق.. هنا تلاشى من عقلي كل ما درسته في العلوم السياسية والقانون الدولي والمنظمات الدولية على مدى أربعين عاما مضت، وعدت للكتاب الأول، والدرس الأول، والتعريف الأول، ومعها عدت إلى ميثاق الأمم المتحدة ذاتها، وهو النظام القانوني الذي أنشأ تلك المنظمة وحدد اختصاصاتها.
وهنا كانت الصدمة، فقد اكتشفت أن الأمم المتحدة هي منظمة دولية، أي منظمة بين الدول، وأنها تشترط في الدول التي تنضم إليها أن تكون ذات سيادة، وأن تكون معترفاً بها دولياً، وأن من يمثل الدول أمام الأمم المتحدة هي الحكومات الشرعية المعترف بها للدول الأعضاء، وأن الأمم المتحدة ليست منظمة أهلية أو فكرية، أو خيرية، أو دينية، وأنه يقتصر تعاملها مع وزارات الخارجية في حكومات الدول الأعضاء، وأي تعامل آخر مع أي مؤسسة حكومية أخرى يكون من خلال وزارة الخارجية، وحتى لا نطيل.. لم أجد في ميثاق الأمم المتحدة أو نظامها الأساسي أو في القانون الدولي مصطلحا اسمه "المرجع الديني الأعلى لشيعة العراق آية الله علي السيستاني"، الذي ورد على لسان السيدة "بلاسخارت"؛ لأن الأمم المتحدة لا علاقة لها بالشأن الديني، ولا تعرف مصطلح "المرجع الديني الأعلى"، ولا يوجد في قاموسها "شيعة العراق" ولا "سنة العراق"، ولا "مسيحيو العراق"؛ لأن هناك كلمة واحدة تعبر عن كل ما هو داخل الحدود الإقليمية لخريطة العراق، وهو دولة العراق وحكومة العراق، والسيد السيستاني لا يمثل حكومة العراق ولا يمثل العراق، ولا يحمل جنسية العراق.
فما الذي يدفع الأمم المتحدة لأن تتعامل مع مواطن إيراني، وتعطيه صفة دولة لا يحمل جنسيتها، ولم يقسم على الولاء لها، أو تمنحه تمثيل حكومة ليس عضواً فيها، أو الحديث باسم شعب لم يكن يوما من الأيام واحدا منه بالمعنى القانوني للشعب؟ هل لكونه عالماً كبيراً عند أتباعه؟ فهذه صفة وحالة لا علاقة لها بالسياسة أو بالأمم المتحدة.
وهنا يثور السؤال.. لماذا تصر الدول الغربية الأمم المتحدة على ترسيخ سلطة السيد السيستاني على العراق، وتحرص بأن تجدد البيعة له، وتعطيه صفة السيادة على العراق، وتتخذ منه بوابة للتعامل مع دولة العراق، وهم لم يتخلوا عن العلمانية، ولم يعودوا إلى القرون الوسطى، ولا يوجد في أي مواثيق دولية إعطاء دور سيادي على دولة كاملة متعددة الأديان والمذاهب لرجل دين يمثل طائفة؟
هل هناك أجندة أخرى وأهداف أخرى تصب في مصلحة نظام ولاية الفقيه في إيران؟ هل اكتشف الغرب أن توسيع دائرة نفوذ النظام الإيراني يحقق مصالحه الحضارية بعيدة المدى بصورة أفضل؟ والسؤال الأهم: هل الغرب لا يريد نظام ولاية الفقيه في إيران؟ وإن كان ذلك كذلك فلماذا الحرص على إعادة خلق النظام نفسه في العراق من خلال إعطاء الشرعية والسيادة "للمرجع الديني الأعلى"؟.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة