الإمارات.. تنوع ثقافي وحضور بارز في المحافل الدولية
من لوفر أبوظبي إلى زيارة البابا فرنسيس
تعكس زيارة البابا فرنسيس آفاق الدور الثقافي والاجتماعي للإمارات في الداخل لبناء مجتمع المعرفة وتحقيق التنمية الثقافية
تستقبل دولة الإمارات العربية المتحدة قداسة البابا فرنسيس بابا الكنيسة الكاثوليكية، في أول زيارة له لمنطقة الخليج العربي، خلال الفترة من 3 إلى 5 فبراير الجاري، وتظهر الخطوة الأهمية الأساسية التي يعطيها البابا للحوار بين الأديان، وهي مثال رائع لثقافة اللقاء، حسب جريج بيرك المتحدث السابق باسم الفاتيكان.
تأتي الزيارة مع بداية إطلاق "عام التسامح" بالإمارات، وتحمل معاني ودلالات عدة، فهي من ناحية تظهر مدى حرص البابا على الانفتاح على الثقافات المختلفة، وتؤكد حقيقة نشر قيم التسامح، وثقافة قبول الآخر داخل الإمارات، وتعزز التنوع الثقافي الذي تعيشه الدولة في ظل وجود أكثر من 200 جنسية على أراضيها.
وتعكس الزيارة آفاق الدور الثقافي والاجتماعي الذي تقوم به الإمارات في الداخل لبناء مجتمع المعرفة، وتحقيق التنمية الثقافية باعتبارهما مكوناً أساسياً من مكونات التنمية المستدامة، وتحول الاستثمار في التنمية البشرية إلى هدف رئيسي لبناء مجتمع متماسك موحد، وربط هذا الدور بالخارج، ليكون معبراً بصورة كبيرة عن مكانة الدولة باعتبارها جسرا للتواصل والتلاقي بين شعوب العالم وثقافاته في بيئة منفتحة قوامها الاحترام المتبادل، ونبذ العنف وقبول الآخر، وتوفير حياة كريمة للمواطنين والمقيمين.
برزت معالم الدور الثقافي للإمارات بالداخل في إطاره المؤسسي من خلال إنشاء وزارة الثقافة، لتكون الأداة المباشرة لنشر الثقافة، وتمثيل الدولة في المؤتمرات الثقافية والفنية في الداخل، والعمل على إحياء التاريخ العربي، والمحافظة على الهوية الوطنية، ومع التوسع في نشر الثقافة وربط ذلك بالبعد الاجتماعي تم تغيير المسمى عام 2016 لتصبح وزارة الثقافة وتنمية المعرفة، في صورة تعكس حقيقة أن التكوين الثقافي للإنسان يتكامل مع التكوين العقلي والنفسي والوجداني.
كما أصدر الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، في العام نفسه، قانون القراءة الذي يهدف إلى بناء مجتمع المعرفة.
أقامت دولة الإمارات العديد من المؤسسات التي تهدف لنشر الثقافة، فجاء إنشاء الدوائر المهتمة بتعزيز النشاط الثقافي، منها الدائرة الثقافية في الشارقة 1980، والمجمع الثقافي في أبوظبي 1981، واتحاد كتاب الإمارات في الشارقة عام 1984، وندوة الثقافة والعلوم في دبي 1987، كما أنشئت المراكز الثقافية والمكتبات في مختلف أنحاء الدولة.
وفي إطار الحفاظ على التراث، أنشئت العديد من المتاحف، منها متحف زايد الوطني (المتحف الوطني)، ومتحف العين الوطني الذي يستعرض التاريخ القديم حتى نشوء الدولة، ومتحف قصر العين الذي كان مقر إقامة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، وتحول لمتحف عام 2001، كما انطلقت أيام الشارقة التراثية عام 2003.
كذلك اهتمت الدولة بإقامة المعارض الفنية والتشكيلية والمهرجات الموسيقية والسينمائية والعروض المسرحية، وحرصت على إقامة الندوات الثقافية في مختلف المناطق، وإصدار المجلات التراثية والملاحق الثقافية في الصحف المحلية.
وأطلقت العديد من الحملات التي تستهدف نشر الثقافة، منها حملة "أبوظبي تقرأ" في 2013، وأقامت المشروعات الثقافية مثل مشروع المنطقة الثقافية بجزيرة السعديات، وأسست أكاديمية للشعر في 2007.
تواكب التطور الثقافي في الإمارات مع مزيد من الأنشطة والفعاليات التي تشهدها الدولة على أراضيها، فكانت إقامة معارض الكتاب ليضيف زخماً جديداً للحياة الثقافية في البلاد، حيث أطلق المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، معرض أبوظبي الدولي للكتاب في عام 1981 تحت اسم "معرض الكتاب الإسلامي"، ثم ما لبث أن تحول إلى "معرض أبوظبي الدولي للكتاب" عام 1986، وعلى مدار دورات المعرض الـ28 السابقة حرصت الدولة على ترسيخ مكانة أبوظبي عاصمة للثقافة والفكر والمعرفة، كذلك عكس معرض الشارقة للكتاب الذي انطلقت أولى دوراته عام 1982 مدى الحراك الثقافي داخل الدولة والتراكم الثقافي.
وتحقيقاً للترابط بين الدور الثقافي داخل الدولة والعالم العربي أطلقت الإمارات مجموعة من المشروعات التي تستهدف نهضة ورقي المواطن العربي ثقافياً، فجاء إطلاق مشروع "كلمة" لإحياء الترجمة في 2007، ليظهر مدى تفهم الدولة للمضامين القوية التي يحملها هذا المشروع، انطلاقاً من مقولة انتوني برجس "ليس الترجمة كلمات تُنقل بل ثقافة تُفهم"، والهدف الرئيسي يتمثل في زيادة معدلات القراءة باللغة العربية، ونقل الثقافات العالمية للمواطن العربي.
كذلك جاء مشروع "تحدي القارئ العربي" الذي يهدف إلى تشجيع القراءة في العالم العربي من خلال التزام مليون طالب عربي بقراءة 50 مليون كتاب عربي خلال العام الدراسي الواحد.
وسعياً من جانب الإمارات لتشجيع الحركة الثقافية في العالم العربي، أدركت مبكراً أهمية تحفيز المواهب والقدرات الثقافية في ربوعه، فأطلقت العديد من الجوائز، منها جائزة سلطان بن علي العويس الثقافية عام 1987، ثم جائزة الشيخ زايد للكتاب عام 2007، وغيرهما من الجوائز كجائزة الشارقة للإبداع العربي.
امتد التواصل الثقافي لدولة الإمارات إلى مختلف دول العالم، ليعكس حقيقة التواصل الثقافي والارتباط بين ثقافة الداخل بقيمها وهويتها الوطنية والثقافات العالمية بروافدها المتعددة، وتصبح الإمارات منصة تلاقي الثقافات نتيجة التنوع الثقافي في الداخل وتفاعله مع الخارج، وتمثل هذا الأمر في العديد من الفعاليات، فكان افتتاح متحف اللوفر في أبوظبي عام 2017، ليظهر بجلاء التفاعل الحضاري بين الشرق والغرب، وخدمة المعرفة، والحوار بين الثقافات والتسامح والتنوع الثقافي.
ويعتبر متحف اللوفر أبوظبي أول متحف عالمي في العالم العربي، حيث يقدم المتحف الذي صممه المهندس المعماري جان نوفيل مجموعة تزيد على 600 عمل فني، منها حوالي 300 عمل مُعار من متحف اللوفر بباريس و12 عملاً من المتاحف الفرنسية الأخرى.
كما تم في 10 فبراير 2018، إطلاق فعاليات الحوار الثقافي الفرنسي الإماراتي من متحف اللوفر أبوظبي، والمبادرة الإماراتية الفرنسية لإنشاء التحالف الدولي لحماية التراث في مناطق النزاع.
كذلك استضافت الإمارات قمة القيادات الثقافية في دورتها الأولى عام 2017 بحضور 450 مشاركاً من 80 دولة، وألحقتها بالدورة الثانية في 2018، وتعتبر أول قمة عالمية تجمع قادة ورواد عالم الفنون والإعلام والسياسة العامة والتكنولوجيا لتحديد الطرق التي يمكن من خلالها أن تؤدي الثقافة دوراً محورياً في زيادة الوعي وبناء جسور التواصل.
منح تعاظم الدور الثقافي للإمارات تقديراً كبيراً لها في محيطها العربي والدولي، فقد انتقل مقر الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب إلى أبوظبي في 2016، وتم اختيار مدينة الشارقة من قبل اليونسكو عاصمة ثقافية للعالم العربي لعام 1998، ثم اختيارها عاصمة للثقافة الإسلامية عام 2014 من قبل المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة "ايسيسكو".
هذه النماذج لا تعكس في الواقع المعالم الكاملة للدور الثقافي للإمارات في الداخل والخارج، وإنما هي مؤشرات تؤكد عمق ورسوخ هذا الدور منذ فترات طويلة، وتظهر مجموعة من الدلالات منها، إعلاء الدولة من قيمة الثقافة كمكون أساسي من مقومات التنمية المستدامة، وبناء مجتمع المعرفة يرتكز على مسيرة متواصلة ومتكاملة للثقافة والفكر، وأن التنوع الثقافي داخل الدولة مصدر قوة لها ولمجتمعها، وتحقيق الرفاه للمواطن يبدأ ببناء الإنسان الواعي والمثقف والمنفتح، وأن هناك تأثيراً إيجابياً لتلاقي الثقافات تعكسه في صورة مباشرة زيارة البابا فرنسيس للإمارات ومشاركته في ملتقى الحوار العالمي بين الأديان حول الأخوة الإنسانية، بما يؤكد جهود الإمارات في تعميق العلاقات الإنسانية القائمة على التسامح والتعايش المشترك.
يعتبر الدور الاجتماعي مكملاً وضرورياً للدور الثقافي، حيث حرصت دولة الإمارات منذ نشأتها على صون المقومات الاجتماعية للمواطنين، فتضمن الدستور الصادر عام 1971 العديد من المواد التي تدعم ذلك، وكمثال على ذلك نصت المادة 14 على أن "المساواة والعدالة الاجتماعية وتوفير الأمن والطمأنينة، وتكافؤ الفرص لجميع المواطنين من دعامات المجتمع والتعاضد والتراحم صلة وثيقة بينهم".
وأصدرت تشريعات اجتماعية لتوفير حياة كريمة للمواطنين، منها قانون الضمان الاجتماعي، وقانون الجمعيات ذات النفع العام، وقانون صندوق الزواج والقوانين الخاصة بالتعاونيات والجانحين والمشردين، ودور الحضانة والمعاقين.
كما اهتمت بالاستثمار في تنمية الموارد البشرية وتقديم الخدمات الأساسية وإشباع حاجات المواطنين، ورسخت ذلك بإصدار المرسوم الاتحادي في 2006 بإنشاء وزارة للشؤون الاجتماعية التي تولت وضع سياسات تؤسس لمجتمع مستقر في أمنه، متكيف مع المعطيات المعاصرة دون المساس بهويته. وفى عام 2016 تغير مسمى الوزارة إلى وزارة تنمية المجتمع للتركيز على الأسرة الإماراتية والمجتمع، كذلك تغير مسمى وزارة الصحة إلى وزارة الصحة ووقاية المجتمع ليتركز دورها في وقاية وحماية المجتمع من الأمراض. كما تغير مسمى وزارة العمل إلى وزارة الموارد البشرية والتوطين ليصبح دورها منصباً على تنمية الموارد البشرية، وتوسيع نطاق التوطين داخل الدولة، كذلك تم إنشاء وزارة للسعادة وجودة الحياة ليصبح هدفها الأساسي مواءمة كافة خطط الدولة وبرامجها وسياساتها لتحقيق سعادة المجتمع.
حظي التعليم باهتمام واسع من قبل الدولة، فكانت استراتيجية التعليم 2010-2020 والتي تضمنت 50 مبادرة استراتيجية لهيكلة التعليم الثانوي، لتؤكد حرص الدولة على توفير أفضل مستوى للتعليم لأجيال المستقبل، وإتاحة جودة الأداء التعليمي والتربوي في المدارس الحكومية والخاصة.
كما أولت الدولة اهتماماً كبيراً بتوفير المتطلبات الأساسية للمواطنين، والعمل على تحقيق مجتمع الرفاه، من خلال زيادة حجم الإنفاق الاجتماعي في موازنات الدولة، حيث أقر مجلس الوزراء في سبتمبر 2018 ميزانية الاتحاد بقيمة 180 مليار درهم خلال الثلاثة أعوام المقبلة، وخصص 59% منها للتعليم وتنمية المجتمع، وتم اعتماد ميزانية عام 2019 بقيمة 60.3 مليار درهم، خصص 42.3% منها لبرامج التنمية المجتمعية، و17% للارتقاء بمنظومة التعليم، و7.3% لتطوير قطاع الصحة.
يعكس ذلك حرص الدولة على توفير مقومات التنمية الاجتماعية، متمثلة في رفع مستوى الحياة الاجتماعية من حيث الصحة والتعليم والمستوى المعيشي والخدمات بشتى أنواعها، والاهتمام بتنمية العلاقات والروابط الاجتماعية القائمة في المجتمع.
اقترن الدور الاجتماعي في الداخل بالخارج من خلال مواصلة الإمارات مسيرة العمل التنموي والإنساني في العالم، وحافظت الإمارات على مكانتها ضمن أكبر المانحين الدوليين في مجال المساعدات التنموية، قياساً لدخلها القومي بنسبة 1.31%، بما يقترب من ضعف النسبة العالمية المطلوبة 0.7% التي حددتها الأمم المتحدة كمقياس عالمي لقياس جهود الدول المانحة.
تبوأت الإمارات المركز الأول عالمياً كأكبر جهة مانحة للمساعدات في العالم لعام 2017، حسب لجنة المساعدات الإنمائية التابعة لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.
وأطلقت الإمارات استراتيجية المساعدات الخارجية 2017-2021 بهدف مكافحة الفقر والمساهمة في تحقيق التنمية المستدامة في الدول المستفيدة والمتلقية للمساعدات، كما كشف تقرير وزارة الخارجية والتعاون الدولي أن أكثر من 120 دولة استفادت من المساعدات.
هذا الدور الثقافي والاجتماعي لدولة الإمارات في الداخل والخارج يرسخ مجموعة من الحقائق، منها حرص قيادة البلاد على تعزيز نهج مؤسس الدولة في تعزيز ثقافة التعايش السلمي، وبث الأمن والطمأنينة، وإرساء قيم التسامح والعدل والمساواة، واحترام الآخر دون النظر لعقيدته أو دينه.