مؤتمر وارسو.. التوافق على ضرورة الحد من الخطر الإيراني
يمكن اعتبار أن "وارسو" قد تحول إلى منصة لتشكيل "تحالف دولي" لمواجهة الإرهاب الإيراني.
على مدى يومين متتالين وبمشاركة كبيرة من دول عربية وأجنبية، شهدت العاصمة البولندية وارسو أعمال المؤتمر الذي دعت إليه الولايات المتحدة الأمريكية حول "تشجيع الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط" الذي تم من خلاله بحث تضافر الجهود الدولية والإقليمية لإرساء الأمن والاستقرار في المنطقة.
وكان المؤتمر قد اختتم أعماله مساء الخميس الماضي ببيان ختامي، أكدت فيه الدولتان الراعيتان الولايات المتحدة وبولندا على ضرورة أن "يؤسس المؤتمر للاستقرار في منطقة الشرق الأوسط"؛ إلا أن مايك بنس نائب الرئيس الأمريكي الذي ترأس وفد بلاده إلى المؤتمر لم يكتفِ بما جاء في البيان، بل شدد على أن إيران تُعد "الخطر الأكبر" في المنطقة.
أما وزير الخارجية الأمريكي مايك بامبيو، فقد دعا إلى "التعاون للتوصل إلى اتفاقية عالمية حول تهديدات إيران"؛ مؤكدًا على أن "التحديات لن تبقى في الشرق الأوسط، بل ستتجه إلى أوروبا والغرب".
التهديد الإيراني
قطعًا، فإن أهم المكاسب التي استطاعت الولايات المتحدة تحقيقها من مؤتمر وارسو، هو الضغط على إيران وحصارها؛ فقد وضع المؤتمر موقعًا جديدًا لإيران على الخارطة الدولية، حيث وجد نظام "الملالي" نفسه أمام ضغط أمريكي بقوة وعديد من الدول التي شاركت في المؤتمر.
بل، لا نبالغ إذا قلنا إن المؤتمر قد تحول إلى منصة لتشكيل "تحالف دولي" لمواجهة سياسات طهران خاصة تلك المتعلقة بدعم المليشيات المسلحة في عدد من الدول العربية والبرنامجين النووي والصاروخي، فضلًا عن تورطها في عمليات إرهابية في أوروبا.
ولعل قولنا الأخير هذا يتأكد إذا لاحظنا تصريحات مايك بامبيو حول ما أسماه "ثلاثي الـ"ح"، الحوثي، حزب الله، وحركة حماس"؛ هذه التصريحات التي أشار فيها إلى أن "إيران تُنفق سنويًا 700 مليون دولار على حزب الله"، وتأكيده على أن "إيران قدمت 16 مليار دولار منذ عام 2013، لتمويل العمليات التي تقوم بها في العراق وسوريا واليمن"، ومن ثم تأتي دلالة تصريح الوزير الأمريكي بأن "واشنطن كانت محقة في فرض مزيد من العقوبات على إيران".
وهنا، بناءً على حزمة العقوبات الأمريكية الأخيرة، فإن إيران قد تمّ حرمانها من تصدير "مليون" برميل من النفط يوميًا، فعندما بدأت العقوبات كانت إيران تصدر 2.3 مليون برميل من النفط، أما الآن فقد وصل المعدل إلى 1.3 مليون برميل يوميًا.
وهكذا، لا يمكن القول إن العقوبات الأمريكية لن تؤتي ثمارها؛ ويجب أن نلاحظ كيف فاقم إعلان هذه العقوبات من جانب الإدارة الأمريكية في تدهور قيمة العملة الإيرانية التي خسرت 70% من قيمتها في مقابل الدولار.
هذا فضلًا عن أن مسألة الحظر النفطي سوف تزيد من انكماش الاقتصاد الإيراني خاصة مع ما تتضمنه العقوبات من حظر تبادل الدولار مع الحكومة الإيرانية، وإقصاء إيران من نظام "سويفت" الدولي للتحويلات المالية، في محاولة أمريكية لعزل طهران عن النظام المالي العالمي.
الاختلافات الدولية
على الرغم من أن الواقع الذي شهده مؤتمر وارسو أثبت التركيز على الملف الإيراني، باعتباره مصدرًا لعدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط؛ إلا أن هذا الواقع كان قد سلط الضوء من جانب آخر على الاختلافات بين الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية الرئيسة، فضلًا عن الانقسام الحاصل في المعسكر الأوروبي نفسه في أعقاب قرار إدارة دونالد ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي.
إذ بدا بوضوح أن التحرك الأمريكي عبر مؤتمر وارسو جاء في إطار نسف الدعم الأوروبي للاتفاق النووي المبرم بين طهران ومجموعة "5+1" (عام 2015) الذي انسحبت منه واشنطن من جانب واحد في العام الماضي.
صحيح أن أوروبا لديها مشكلات متعددة مع النظام الإيراني سواء تجاه سياساته في منطقة الشرق الأوسط، أو ما يشكله من تهديد إرهابي أو جنائي للأمن الأوروبي؛ إلا أنه يبقى من الصحيح أن الموقف الأوروبي حول الاتفاق النووي يختلف جذريًا عن الموقف الأمريكي.
ولعل هذا، ما يؤشر إلى دلالة اختيار الولايات المتحدة لبولندا، الدولة العضو في الاتحاد الأوروبي، كي تكون شريكة في تنظيم المؤتمر؛ فهو اختيار قد يؤدي إلى "تقسيم" الاتحاد الأوروبي بشأن الموقف من إيران عمومًا ومن الاتفاق النووي بشكل خاص؛ وهو ما يتأكد إذا لاحظنا الخلافات العميقة بين الولايات المتحدة والقوى الأوروبية الرئيسة مثل فرنسا "العنيدة" التي ذهبت باتجاه التعاون مع ألمانيا (لتجديد فكرة الجيش الأوروبي الموحد) التي رفضت كل منهما إرسال وزيري خارجيتهما، ناهيك عن تغيب كل من روسيا والصين.
الاستهداف الأمريكي
في هذا الإطار، إطار الاختلافات الدولية عمومًا، وتلك الناشئة بين الولايات المتحدة وأوروبا بوجه خاص، حول كيفية التعامل مع إيران، كـ"مصدر" لعدم الاستقرار في الشرق الأوسط، يبدو أن التساؤل الذي يطرح نفسه يتوجه ـ مباشرة ـ نحو الاستهداف الأمريكي من الدعوة إلى انعقاد مؤتمر وارسو، وهو تساؤل لا شك يتعلق بالاحتمالات المستقبلية في ما بعد مؤتمر وارسو.
يمكن التأكيد هنا على أن العقوبات الأمريكية السابقة قبل توقيع الاتفاق النووي في عام 2015، تُظهر أن إيران كانت قد حصلت على 73 مليار دولار من العوائد النفطية بفضل تمكنها من الالتفاف على العقوبات؛ وذلك عبر أساليب المقايضة والتهريب وإغراء المشترين بالبيع بأسعار أقل، وبيع النفط من خلال وسطاء يقومون بشرائه محليًا ثم يعيدون بيعه في الأسواق العالمية.
أضف إلى ذلك، أن إيران قامت في شهري سبتمبر وأكتوبر الماضيين، أي قبل دخول العقوبات الأمريكية حيز التنفيذ بتخزين كميات كبيرة من النفط في مخازنها، وفي مخازن عائمة بالخارج، وهو ما يجعل من الصعب تعقب ما سيحدث لهذه الكميات على الطرق، وهي أحد الأساليب الإيرانية في التهرب من العقوبات.
فإذا أضفنا إلى ذلك، فإن بعض الدول المستوردة للنفط الإيراني تسعى للحصول على تنازل من إدراة ترامب للاستمرار في القيام ببعض الأعمال مع طهران، ومنها مستوردات النفط؛ هذا فضلًا عن بعض القوى الكبرى التي يمكن أن تشتري النفط الإيراني دون إثارة مشكلات مالية مع واشنطن، لنا أن نؤكد مرة أخرى على أن العقوبات الأمريكية، وإن لم تتمكن من "خنق" إيران، إلا أنها سوف تكون مؤلمة وقاسية.
وهكذا، فإن النقطة الرئيسة التي يرتكز عليها الاستهداف الأمريكي من العقوبات، هي الإصرار على دفع الإيرانيين نحو التفاوض حول برنامجها الصاروخي، ربما أكثر من برنامجها النووي الذي تم التوقيع من قبل على اتفاق بشأنه، هذا إضافة إلى ضبط سلوكها بشأن تدخلاتها الإقليمية في منطقة جوارها الجغرافي العربية.
وبالتالي، يبدو أن الأمريكيين عبر التأكيد بأنهم لا يهدفون إلى إسقاط النظام يريدون التوصل إلى ضبط التصرفات الإيرانية بخصوص المنطقة العربية عبر التفاوض من خلال الضغط الاقتصادي الشديد.
ولأن الإدارة الإيرانية تعي ذلك جيدًا، لنا أن نتوقع أن تقوم بالتصعيد عبر مليشياتها الموجودة في الساحات العربية الملتهبة دون الانجرار إلى الاستفزاز المباشر للقوات الأمريكية لسبب بسيط هو أن النظام الإيراني يعتمد أسلوب المواجهة غير المباشرة، والاستهداف الإيراني هنا واضح، وهو الدخول إلى المفاوضات المتوقعة أو التي يمكن توقعها بامتلاك أوراق دفاعية للتفاوض.
يعني هذا، أن الاحتمال الأقرب إلى المنطقية عبر ملاحظة سلوكيات إدارة ترامب على المستوى السياسي والاستراتيجي كذلك، هو دفع إيران إلى "التفاوض" عبر الضغط الاقتصادي الشديد، وبمساعدة قوى دولية أو إقليمية أخرى.
ولعل المثال الأكثر وضوحًا، في هذا المجال، هو النجاح الذي حققه ترامب في تجربته مع كوريا الشمالية؛ فهذا النجاح، وإن كان نسبيًا، يؤهل إدارة ترامب لنجاح مماثل مع طهران، خصوصًا إذا أدركنا مغزى ترديد الرئيس الأمريكي الدائم بأن "الإيرانيين سيأتون للتفاوض معنا".