القضية ليست في صدور موقف أمريكي محدد بات معلوما على الأقل في إطاره النظري، وإنما في تفعيل ما تم من تبني مواقف وتوجهات سياسية
أقرّت الإدارة الأمريكية استراتيجية جديدة تجاه إيران؛ إذ قدم وزير الخارجية مايك بومبيو خريطة طريق في الـ21 من مايو الجاري، تركز على طرح صيغة أمنية جديدة للتعامل مع إيران بعد الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني متعدد الأطراف، أو ما يعرف بصيغة 5+1، وهذه الصيغة تتكون من 7 محاور جديدة للتعامل مع إيران، مع طرح 12 مطلبا أمريكيا جديدا من طهران، أبرزها وقف دعم الإرهاب والانسحاب من سوريا.
واضح من الخريطة الأمريكية وبنودها والمواقف المرتبطة بها أن الإدارة الأمريكية تريد أن تؤكد استراتيجية جديدة في هذا التوقيت، وأنها لا تزال هي من تقرر في الشرق الأوسط، وأنها قادرة على إدارة ملف التفاوض مع إيران بصرف النظر عن موقف الدول الأوروبية، الفرنسية والألمانية على وجه الخصوص، ومن ثم فإن توجهات الإدارة الأمريكية تمضي في سياقات محددة برزت في مرحلة ما بعد الانسحاب الأمريكي من الاتفاق والإعلان عن المقاربة الجديدة ببنودها المعلنة.
الإدارة الأمريكية تستطيع أن تنجح في تنفيذ استراتيجيتها الجديدة تجاه إيران في حال وضع إطار عام للتعامل مع الحالة الإيرانية بأكملها، وليس عبر الاتفاق النووي فقط، خاصة أن كل المقومات للقيام بهذا الأمر متوافرة تماما.
أولا: تحتاج الإدارة الأمريكية إلى آليات عمل حقيقية ورؤية أكثر شمولا في التعامل مع إيران، وعدم اتباع استراتيجية الجزء جزء التي ثبت عدم جدواها في التعامل مع إيران، والتي وظفت مواقفها وتوجهاتها لتحقيق مصالحها، بما في ذلك الالتفاف على بنود الاتفاق، ومن ثم فإن الإدارة الأمريكية مطالبة الآن وهي تصيغ رؤية أكثر استراتيجية وسياسية أن تتبع مسارا واضحا في التعامل، سواء بمفردها أو بالتنسيق مع الجانب الأوروبي وكذلك الالتزام مع السعودية ودول المنطقة للحد من طموحات إيران النووية وبرامجها للتسلح وزعزعة الاستقرار في المنطقة، وهو أمر سيحتاج إلى مزيد من الوقت لتحقيق الهدف الأمريكي من الانسحاب من الاتفاق، والسعي إلى التوصل لصيغة أكثر استقرارا ووضوحا عما كان في السابق.
ثانيا: لا جدال أن الإدارة الأمريكية تدرك مساحات التوافق والتعارض المؤيدة والمعارضة لنص الاتفاق الذي ما زال موجودا على الأقل في مستواه النظري، وهو ما قد يعطي لإيران الفرصة في التلويح في استئناف استراتيجية التخصيب بصرف النظر عن الدرجة والهدف المحدد، كأحد وسائل الردع المسبق التي تسعى إيران إلى التأكيد عليها، وأنها قادرة على تبني استراتيجيات تصعيدية في مواجهة الموقف الأمريكي، وأنها لن تنتظر من قريب أو بعيد أن تبدأ الإدارة الأمريكية مساراتها الجديدة في التفاوض غير المباشر، أو أن تعلن استراتيجية تعامل من جانب واحد، سواء كانت من الخارجية الأمريكية أم من البيت الأبيض، خاصة أن الرئيس الإيراني حسن روحاني ومن معه في إطار مجموعة الحكم القريبة يعانون من الانتقادات التي تبديها التيارات المناوئة في الداخل الإيراني، التي سيكون لها دور حاسم في الانتخابات التشريعية ثم الرئاسية القادمة، وهو ما يدركه الجانب الأمريكي جيدا، ويتخوف من تبعاته في ظل حالة التصعيد المتعارف عليها من قبل قوات الحرس الثوري، والتي تدرك أنها ستظل في واجهة ما يجري.
ثالثا: تبدو الإدارة الأمريكية في حالة ارتباك بين التعامل مع ما هو استراتيجي عسكري من جانب وسياسي ودبلوماسي من جانب آخر، وفي ظل التأكيد على ضرورة إقدام إيران على التوقف عن ممارساتها الراهنة في الإقليم، وهو اتهام حقيقي لدولة تضع على رأس أولوياتها التدخل في الشئون الداخلية لدول جوارها القريب والبعيد، وأنها تسعى إلى تصدير نموذجها ومشروعها التوسعي في المنطقة وخارجها، وهو ما يتطلب دوليا مواجهة النفوذ الإيراني بكل السبل، وليس كما قال وزير الخارجية مايك بومبيو إن العقوبات على إيران تنتهي فوراً بمجرد تنفيذ ما هو مطلوب منها.
فالواقع يشير إلى أن إيران لن ترتدع إلا من خلال إجراءات صارمة ومواقف دولية ربما تتجاوز تبني موقف موحد في مجلس الأمن تجاه الممارسات الإيرانية، خاصة أن الموقف الدولي ليس موحدا بالنظر إلى التعامل مع الموقف الإيراني، بدليل حالة الانقسام الراهن في التعامل مع الحالة الإيرانية، والنظر فقط للاتفاق النووي، وكأنه وحده المسؤول عن التوجهات الإيرانية في الإقليم فقط، متناسين أن هناك إجراءات وتوجهات ومواقف لإيران أدت إلى مزيد من حالة عدم الاستقرار بأكمله، فهل ستسمع إيران لمطلب وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو بوقف دعم الإرهاب وحزب الله والحوثيين، وسحب قواتها من سوريا، ومن ثم يتطلب المشهد الراهن التعامل معه بجدية بصرف النظر عن طرح الإدارة الأمريكية لمقاربة سياسية حقيقية للتعامل مع المشهد الإيراني؟ وفي ظل التأكيد على أن أي تحرك أمريكي مرتبط بآليات حقيقية قابلة للتنفيذ وليس مجرد الإعلان عن مقاربة أو استراتيجية محددة تركز على إنشاء إطار أفضل لمنع انتشار الأسلحة النووية في إيران والمنطقة.
رابعا: أيا كان الخيار الأمريكي المقترح في التعامل مع تطورات الشأن الإيراني فإن الحاجة إلى مراجعة حقيقية للمواقف الأمريكية إزاء إيران يتطلب وجود تصور استباقي للتعامل مع النهج الإيراني الحالي، والمتوقع بصرف النظر عن مضمون الاستراتيجية الأمريكية المعلنة وقدرة الإدارة الأمريكية على تطبيقها أصلا في الفترة المقبلة، والتي ترد على الذين طالبوا الإدارة الأمريكية بوضوح الرؤية، خاصة مع استمرار حالة التجاذب والتباين بين مراكز صنع القرار الأمريكي خاصة في الخارجية، وعدد من قنوات التأثير غير المباشر في بيوت الخبرة وطيدة التواصل، والاتصال مع الإدارة الأمريكية، وهو ما قد يؤثر على تنفيذ أي مقاربة أو استراتيجية حقيقية في الفترة المقبلة.
فالقضية ليست في صدور موقف أمريكي محدد بات معلوما على الأقل في إطاره النظري، وإنما في تفعيل ما تم من تبني مواقف وتوجهات سياسية حقيقية يمكن أن تأتي بنتائج إيجابية، وتؤثر في تبعات الموقف الأمريكي الراهن وتتعامل مع إيران كدولة مهددة للأمن القومي الأمريكي وليس فقط العربي، وأن الإدارة الأمريكية تخشى -في إطار التهديدات الراهنة- أن تتأثر مصالحها خاصة مع احتمال الاتجاه لتبني استراتيجيات صفرية مكلفة، وهو ما حذرت منه الدول العربية التي عانت -وما تزال- من التدخلات السافرة في الإقليم بأكمله، وهو أمر يجب الوقوف أمامه عربيا وأمريكيا، خاصة أن إيران ماضية في مسارها لا تريد العودة أو التراجع عن مواقفها سواء في اليمن أو العراق أو سوريا.
خامسا: إن الإدارة الأمريكية تستطيع أن تنجح في تنفيذ استراتيجيتها الجديدة تجاه إيران في حال وضع إطار عام للتعامل مع الحالة الإيرانية بأكملها، وليس عبر الاتفاق النووي فقط، خاصة أن كل المقومات للقيام بهذا الأمر متوافرة تماما، وفي ظل وجود اتفاق دولي عام وجمعي بأن إيران مهددة حقيقية للأمن الإقليمي، وأنها مثل إسرائيل التي ترفض الانصياع للموقف الدولي، ولا تقبل الدخول في نظام منع انتشار السلاح النوويNPT، أو قبول التفتيش الدوري على المنشآت النووية، خاصة أنها تملك خمس مفاعلات نووية كاملة، بعضها مثل ديمونة تهالك وتتوالى حدوث عمليات تسريب دوري من هيكله مما تطلب إجراءات أمنية داخل قرية ديمونة، ومع ذلك ترفض إسرائيل الحديث عن مستقبل ترسانتها النووية إلا بعد أن يتحقق السلام وتتم التسوية العربية الإسرائيلية، وهو ما قد يتكرر مع الفارق في خصوصية الحالة الإيرانية التي تلوح بالعودة لتخصيب اليورانيوم، والمضي قدما في امتلاك القنبلة بعد أن وصلت لمرحلة العتبة النووية، وهو ما تخشى تبعاته الدول الكبرى ودول الإقليم العربي بأكمله.
ومن ثم فإن الإجراءات الأمريكية تصب في اتجاه محدد التعامل مع التهديدات الاستراتيجية الممتدة الواردة من إيران، والتي لا تتوقف عند المضي قدما في برامج التخصيب فقط، وإنما التعامل مع البرنامج الصاروخي التي تسعى إيران إلى اتباع النموذج الكوري الشمالي في مراحله وخطواته، مما يشير إلى مخطط إيراني حقيقي في التعامل مع كل السيناريوهات المطروحة، ومع أية تطورات محتملة على الجانبين الأوروبي أو الأمريكي.
في مثل هذه الأجواء يبقى السؤال المشروع.. هل تنجح الإدارة الأمريكية في تحقيق مكاسب من إعادة طرح رؤيتها وسياستها تجاه إيران؟، أم أنها ستكتفي فقط بتسجيل موقف سياسي واستراتيجي على أن تترك للجانب الأوروبي صياغة موقف جديد في ظل المسعى الأمريكي في تحقيق حضور سياسي واستراتيجي من أجل جني ثماره المالية والاقتصادية التي باتت معروفة، وسبق طرحها أمريكيا في إطار المعادلة الاقتصادية التي تحكم الرئيس الأمريكي ترامب وأعضاء إدارته، وهي (النفقة-التكلفة-العائد)؟ وهو ما يمكن أن يضع الأمور في نصابها الطبيعي.
ومن ثم فإن الإدارة الأمريكية ستستمر على مقربة من الملف الإيراني بكل تفاصيله المعقدة، ولن تبارحه بل ستعمل على توظيفه واستثماره في ظل واقع عربي ودولي متفق عليه بشأن الإقرار بأن إيران بوضعها الراهن والمحتمل ستظل أكبر خطر في الإقليم، ومن ثم فمن الضروري التعامل الواقعي الجاد مع أية تهديدات محتملة من منطق سياسي واستراتيجي في آن واحد.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة