يعتقد مراقبون أن الولايات المتحدة اكتشفت بعد 20 سنة أنها شرطي يحمي مصالح خصومه في آسيا على نفقة دافعي الضرائب الأمريكان.
لذا يرى هؤلاء أن الاتفاق بين الولايات المتحدة وبين "طالبان" كان يستهدف استخدام الحركة في الضغط على بكين وموسكو، ولكن الواقع يبدو مغايرا لهذه الفرضيات تماماً، لأن هناك إشارات اتفاق واضحة بين "طالبان" وبين كل من الصين وروسيا، فضلاً عن أن قنوات اتصال بين إيران والحركة تبدو قائمة ومستمرة.
ويلاحظ أن "طالبان" دعت بعض الدول لحضور مراسم الاحتفال بالحكومة الجديدة، وكان من بينها تركيا وإيران وباكستان والصين وروسيا، لذا فإن الهدف الأمريكي الخاص بوضع شوكة في خاصرة الصين وروسيا لن يتحقق على الأرجح.
ومع ذلك فإن مفاتيح الحصول على الشرعية والاعتراف الدولي لا تزال بيد واشنطن وحلفائها الغربيين، حيث يظل بقاء "طالبان" في السلطة مرهوناً بالحصول على المساعدات الدولية وإنقاذ الاقتصاد الأفغاني من انهيار حتمي سيواجهه حال استمرار عزلة الحركة، كما كانت الحال في ولاية حكمها الأولى.
وتؤكد المؤشرات أن الإدارة الأمريكية الحالية لا تثق كثيراً بحدوث تغييرات في نهج "طالبان"، حيث أكد الرئيس الأمريكي جو بايدن أنه لا يعتقد أن حركة "طالبان" تغيرت، وقال: "أعتقد أنهم يمرون بأزمة وجودية بشأن ما إذا كانوا يريدون أن يعترف بهم المجتمع الدولي كحكومة شرعية".
واقترح "بايدن" أسلوبا للتعامل مع "طالبان" يتمثل في ممارسة الضغط على الحركة اقتصادياً ودبلوماسياً ودولياً، وهذا يعني أن الولايات المتحدة تجهز خيار العقوبات والعزلة الدولية للتعامل مع "طالبان" إذا انتهجت نهج صورتها الأولى، لكن المعضلة أن تقارب "طالبان" مع خصوم الولايات المتحدة الاستراتيجيين يحد من فاعلية سياسة العقوبات والعزلة، التي يمكن أن تلجأ إليها واشنطن، كأدوات ضغط على الحركة.
من ناحية أخرى، هناك مؤشرات متنامية حول انحسار الاهتمام الغربي بالتدخل عسكرياً لمكافحة التنظيمات الإرهابية.
فعقب الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، تعتزم فرنسا خفض قواتها العسكرية في مالي، حيث يتحدث الخبراء عن نهاية عصر الانتشار العسكري للجنود على الأرض في مناطق الصراعات.
ولكن تحليل الواقع يقول إن المسألة لا تتعلق بتراجع الاهتمام بمكافحة الإرهاب، بل ترتبط أساساً بآليات تنفيذ هذه المهام، حيث تراجع دور القوات النظامية في التخطيط العسكري في ظل انتشار أنظمة الصواريخ الموجهة والطائرات المسيّرة لدى التنظيمات الإرهابية.
ويلاحظ أن المليشيات الموالية لإيران في العراق قد وجّهت ضربات دقيقة للقواعد العسكرية، التي تتمركز بها قوات أمريكية، باستخدام صواريخ وطائرات مسيّرة، فضلاً عن أن الانتشار العسكري على الأرض في نطاق واسع ولمدد طويلة بات مسألة مكلفة للغاية يصعب على موازنات تلك الدول تحملها في ظل تراجع مؤشرات الأداء الاقتصادي بسبب تفشي جائحة "كورونا".
كما أن مثل هذه العمليات بات لها كلفة سياسية باهظة من جراء الخسائر البشرية، التي تتعرض لها القوات في ساحات الصراع، فالخسائر البشرية بين صفوف القوات تمثل أكبر عنصر ضغط على القادة والسياسيين، والتنظيمات الإرهابية تدرك هذا وتعمل على تعظيم هذه الخسائر للضغط على قادة الدول، فمقتل أي جندي أمريكي أو بريطاني أو فرنسي في عمليات مكافحة الإرهاب يأتي خصماً من الرصيد الشعبي للرؤساء والقادة، ناهيك بأن استمرار الصراع يتسبب في وقوع أخطاء يسقط بسببها ضحايا مدنيون، ما يجلب الانتقادات للدول ويتسبب في تشويه سمعتها وصورتها الذهنية.
يعتبر البعض الانسحاب الأمريكي من أفغانستان زلزالاً استراتيجياً له تداعيات لم تتضح معالمه بعد، ورغم أن التجارب السابقة والشواهد الحالية تقول إن الإشكالية ليست في قرار الانسحاب، بقدر ما تتمحور حول "إخراج" هذا المشهد بالشكل الذي يحافظ على سمعة ومكانة الولايات المتحدة، لذا فقد يكون من السابق لأوانه بالفعل بناء استنتاجات قاطعة حول تأثير ما حدث ويحدث في أفغانستان على السياسة الخارجية الأمريكية في المستقبل القريب.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة