هل ثقافة العنف نتاج لممارسة العنف؟ بمعنى أن العنف يخلق ثقافته؟ يميل البعض إلى هذا الرأى مستدلين بأن تكرار وشيوع ممارسات العنف
هل ثقافة العنف نتاج لممارسة العنف؟ بمعنى أن العنف يخلق ثقافته؟ يميل البعض إلى هذا الرأى مستدلين بأن تكرار وشيوع ممارسات العنف
المتبادل بين الأفراد أو بين الجماعات يجعل من ذلك العنف ممارسة عادية مقبولة و من ثم يصبح تحبيذ العنف ضمن مكونات البناء القيمى والنسيج الثقافى السائد فى مجتمع معين،مشكلا ما يعرف بثقافة العنف.
ويميل البعض - فى المقابل - إلى النظر إلى ممارسة العنف باعتبارها نتاجا لثقافة العنف، بمعنى أن ممارسة العنف لا تنبع من فراغ بل تعبير عن ثقافة سائدة بالفعل تحبذ ذلك العنف وتدعو إلى ممارسته. ولعل مقولة «إن الحروب تبدأ فى عقول البشر» تجسد هذا الاتجاه، فضلا عن العديد من الشواهد الامبيريقية. وثمة من يرون فى العنف تعبيرا عن متغيرات كيميائية فسيولوجية فى المخ، لا تعدو الثقافة أن تكون مجرد مثير أو منبه يسارع من فعل تلك المتغيرات، ويستند هؤلاء لتدعيم وجهة نظرهم إلى العديد من التجارب والمشاهدات والبحوث التى تثبت إمكانية دفع الفرد إلى ممارسة العنف، وكذلك كف تلك الرغبة لديه من خلال التعامل المباشر مع جهازه العصبي.
وثمة اتجاه رابع يميل أصحابه إلى تجاوز النظر إلى الموضوع برمته من منظور العلاقة السببية التى تسعى لتحديد نقطة البداية. ويفضل أصحاب هذا الاتجاه القول بأن العلاقة بين ممارسة العنف وثقافة العنف علاقة متبادلة متصاعدة، بمعنى أن ممارسة العنف تدعم وترسخ ثقافة العنف مما يزيد من فعالية وقوة تلك الثقافة التى تدفع إلى التماس الأسباب لممارسة جديدة أشد عنفا وهكذا.
ورغم أن هذا الاتجاه يحظى بقدر كبير من القبول الأكاديمي،إلا أنه يمثل إشكالية كبيرة على المستويين الفكرى والعملي، فمن الناحية العملية يهتم المنفذون وأصحاب القرار بتحديد السبب الأصيل للمشكلة بحيث يضعون خططهم للسيطرة عليها و تعديل مسارها فى الاتجاه الذى يوافقهم. أما من الناحية الفكرية، فإن قضية تفسير ممارسة الإنسان للعنف قد شغلت عقول المفكرين وعلماء النفس عبر التاريخ، حيث انقسمت رؤاهم إلى فريقين:
فريق «المتشائمين» الذين يرون أن الميل للعنف والتدمير يعد خاصية أصيلة من خواص الإنسان باعتباره إنسانا، ومن ثم فلا سبيل للتخلص منها أو القضاء عليها، فقد تبنى فرويد مثلا فى بواكير هذا القرن نظرة بالغة التشاؤم لجوهر الطبيعة الإنسانية تقوم على أن ثمة صراعا بين «غريزة الموت» و«غريزة الحياة»، وأن صراع الإنسان مع نزعات التدمير أو «غريزة الموت» ومحاولاته المستمرة لترشيدها أو «إعلائها»، هو الذى مكنه من خلق الحضارة البشرية، لكن النصر فى النهاية - من وجهة النظر هذه - معقود لغريزة الموت سواء على المستوى الفردى حيث الموت نهاية كل حي، أو على مستوى البشرية حيث يقوم الإنسان بصناعة الحضارة بدأب وتدميرها بقوة أشد.
كذلك فقد كان الفيلسوف توماس هوبز - مثلًا - فى منتصف القرن السابع عشر يرى أن الإنسان أناني، لا يرى إلا ذاته، ويسعى دون هوادة لإشباع رغباته على حساب الآخرين. وليس من سبيل لكى يعيش الإنسان فى سلام مع أخيه الإنسان دون سرقة أو اغتصاب أو قتل أو فوضى اجتماعية سوى الالتزام بعقد اجتماعى صارم لا يسمح للمرء بالتطاول على حقوق وامتيازات الآخرين، وبالمثل.
أما فريق «المتفائلين» من المفكرين فيرون أن العنف مكتسب ثقافى حضارى تاريخي، وإنه من صناعة البشر وليس خاصية من خواص الإنسان الطبيعية؛ إنه نتاج «ثقافة العنف» التى صنعها الإنسان وهى ثقافة قابلة للتغيير، إذا ما أراد صانعها أن يسعى لتغييرها. ومن هؤلاء على سبيل المثال عالم النفس الشهير مازلو الذى تبنى رؤية للإنسان باعتباره كائنا متسع الإمكانات، قادرا على تجاوز احتياجاته البيولوچية الأنانية، وأن بعض الأفراد النادرين يتمكنون من التحقيق الكامل لمواهبهم الفريدة وبلوغ حالة راقية يطلق عليها مازلو اسم حالة تحقيق الذات،. ورغم أن ظروف البيئة قد تعوق شخصًا ما لبعض الوقت، فإن بداخل كل فرد إمكانية أن يصبح كائنا إنسانيا منتجا له قيمته.
إن ذلك التعدد فى وجهات النظر المتعلقة بثقافة العنف، لا يقف عند حدود الاجتهاد النظرى فحسب، بل إن المفكرين الذين يتناولون ثقافة العنف فى عالم اليوم مطالبون من مجتمعاتهم المحلية، والوطنية، والإقليمية، بل ومن المجتمع العالمى بتحديد موقفهم من العنف وثقافته،ثم بتقديم الاقتراحات المناسبة للتعامل مع الموضوع وفقا لموقفهم منه. وغنى عن البيان أن الموقف من العنف تحبيذا أو رفضا يرتبط برؤية جذور ذلك العنف ومن ثم يحدد طبيعة الاقتراحات المناسبة للتعامل معه سلبا أو إيجابا، وما إذا كان ذلك التعامل يستهدف تشجيع العنف باعتباره سلوكا مطلوبا اجتماعيا وسياسيا فى ظل مناخ دولى يجعل منه سبيلا يكاد يكون وحيدا لاستمرار الحياة، أو أن يستهدف ذلك التعامل «ترشيد العنف» باعتباره أمرا غريزيا يستحيل القضاء عليه أو أمرا ضروريا لا يستحب الاستغناء عنه تماما، أو أن يستهدف ذلك التعامل التصدى للقضاء على العنف تماما باعتباره نتاجا ثقافيا تاريخيا خاليا من الفائدة.
* نقلا عن الأهرام
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة