تتسارع الأحداث بصورة كبيرة بين شركة فاغنر والقوات الروسية ما يشير إلى منحى خطير في إطار العلاقة بين الجانبين.
يأتي هذا رغم انتهاء الأزمة مرحلياً خلال الساعات الأخيرة بعد إعلان بيلاروسيا أن رئيسها ألكسندر لوكاشينكو اتفق على وقف تحركات المجموعة في روسيا، والتمرد المسلح بناء على اتفاق مع بوتين، وبعد تقديم مقترحات مقبولة بضمانات أمنية لمقاتلي "فاغنر" من أجل وقف القتال، بينما أعلن قائد فاغنر التراجع من جهة واحدة، والعودة إلى مراكزه.
ومعلوم أن الخلافات قد تفجرت بين قائد "فاغنر" وقادة الجيش، منذ أشهر خلال المعارك في أوكرانيا، إلا أنها تحولت إلى اشتباكات مسلحة لاحقا.
والواقع أن هذه التطورات المفصلية ترتبط بعدة مواقف تسارعت في الفترة الأخيرة..
أولها، أن هناك أبعاداً شخصية فيما جرى في روسيا، مرتبطة بالصراع بين قائد المجموعة، ووزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، بعد أن لعبت مجموعة فاغنر دوراً حاسماً في جهود موسكو للسيطرة على بلدة باخموت في شرق أوكرانيا.
إضافة إلى اتهام قائد "فاغنر"، شويغو بحرمان قواته عمداً من الذخيرة والدعم، وسحب قواته من باخموت.
وتزامن ذلك مع إعلان شويغو أن جميع الجنود المتطوعين الذين يقاتلون مع روسيا سيطلب منهم توقيع عقد رسمي مع روسيا بحلول الأول من يوليو/تموز، بما في ذلك مجموعة فاغنر، وقد انحاز الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى شويغو، وتم التوجيه بأن قائد المجموعة يجب أن يستمع إلى أوامر وزير الدفاع.
وليس بخافٍ أن هذا الصراع ارتبط بما يجري في مسرح العمليات في أوكرانيا بعد أن أعلن قائد قوات فاغنر أن روسيا تتراجع في جنوب وشرق أوكرانيا، وأن القوات الأوكرانية تدفع الجيش الروسي للتراجع في خيرسون وزابوريجيا، بعد هجوم كييف المضاد، على عكس ما جاء على لسان الرئيس بوتين بأن أوكرانيا تعاني من خسائر كبيرة.
ثانيها: دخول الرئيس بوتين على خط ما يجري، وعدم اقتصاره على وزير الدفاع وقادة الأركان والتشكيلات، حيث أشار الرئيس الروسي بوتين إلى أن التمرد المسلح لمجموعة فاغنر العسكرية خيانة، وأن أي شخص يحمل السلاح ضد الجيش الروسي سيعاقب، وهو ما حسم بعد وساطة بيلاروسيا، إلا أن ذلك لا يعني انتهاء الأمر، أو أنه كان مجرد دراما روسية أو اتفاق على إدارة الأزمة للإطاحة بجنرالات كبار من الجيش الروسي لديهم تحفظات على إدارة المعارك في أوكرانيا.
ومن ثم يفهم ما قاله الرئيس بوتين في سياقه أنه سيفعل كل شيء لحماية روسيا، ولتحقيق الاستقرار في روستوف أون دون، وهي مدينة بالجنوب أشار يفغيني بريغوجين رئيس فاغنر إلى أن قواته سيطرت على جميع المنشآت العسكرية فيها.
وأعلنت اللجنة الوطنية لمكافحة الإرهاب الروسية أنه لمنع هجمات إرهابية محتملة في المدينة ومنطقة موسكو، تم وضع نظام لعمليات مكافحة الإرهاب، الأمر الذي يشير إلى بدء تبني سلسلة من الإجراءات الأمنية، وتشديد قيود مكافحة الإرهاب تحسباً لأي طارئ.
كما تم تشديد الإجراءات الأمنية في محيط المنشآت الحيوية في موسكو، ووضع المرافق العامة والبنى التحتية تحت الحماية المشددة، وجرى انتشار أمني ونشر آليات مدرعة عسكرية تابعة للجيش الروسي وسط موسكو ومحيط الكرملين، كما أن 3 آلاف من قوات النخبة الشيشانية اتخذت مواقعها في موسكو لمواجهة قوات فاغنر العسكرية الخاصة التي كانت تزحف باتجاه المدينة وتوقفت بعد الوساطة الأخيرة من بيلاروسيا.
الأمر الذي يشير إلى وجود حالة استباقية من القوات الروسية للتعامل مع المشهد الراهن والمحتمل بصرف النظر عن انتهائه، ومعروف أن رئيس مجموعة فاغنر قد ألقى باللوم على وزير الدفاع، وأدائه في حرب أوكرانيا مع تأكيده أن حرب روسيا في أوكرانيا كانت مقصودة لصالح بعض النخب، وهو ما رفضته أجهزة المعلومات الروسية.
ثالثها: في إطار الشد والجذب وانفتاح المشهد بين الجانبين رغم التسوية العاجلة التي تمت مع مجموعة فاغنر فمن الواضح أن المصالح الشخصية هي السبب في تمرد قائد قوات فاغنر، وأن المعركة الأساسية لروسيا هي أوكرانيا وليست قوات فاغنر، وهو ما سيؤثر على مسار ما يجري في الحرب في أوكرانيا، خاصة أنه من الواضح ومن سير العمليات العسكرية أن هدف روسيا الرئيسي هو السيطرة على منطقة دونباس، بما في ذلك إقليم لوهانسك، الذي تسيطر عليه أوكرانيا جزئيا، مع التأكيد على أن أحد السيناريوهات المطروحة روسيا كان توجيه ضربات صاروخية باليستية على المدن الكبيرة بما في ذلك كييف، ومحاولة قطع الطرق المؤدية إلى شرق أوكرانيا عن طريق قصف الجسور.
ومعروف أن روسيا احتلت بلدتي سفاتوف وكريمينا، اللتين تقعان على بعد نحو 100 كيلومتر شمال غربي لوهانسك وقد تم ذلك عبر جهد مجموعة فاغنر.
رابعها: على الرغم مما يجري في مسارح العمليات – وفي سياق ما يجري مع مجموعة فاغنر- وفقد الجيش الروسي أكثر من 9 آلاف مركبة عسكرية منذ بدء عمليته العسكرية بأوكرانيا حتى الآن، لا يزال الوضع الاقتصادي الداخلي متماسكا.
ويعزز من ذلك أن روسيا تملك قدرات نووية أكثر من دُول حلف الناتو، بما في ذلك الولايات المتحدة، ولن تقبل روسيا بالضغوط لتقليصها فلديها أكثر من 6000 رأس نووي، ولهذا أعلنت رسميا عن نشر أسلحة نووية تكتيكية في بيلاروسيا ردا على استمرار التسليح الغربي لأوكرانيا، وذلك في إطار مواجهات أخرى غربية روسية بصورة غير مباشرة، ما يشير إلى أن العملية العسكرية الخاصة الروسية بدأت للدفاع عن منطقة دونباس، والآن تحولت إلى حرب مع الدول الغربية.
وكانت دول حلف الناتو بدأت سلسلة من أكبر مناوراته الجوية بتنسيق من ألمانيا، عرفت باسم إير ديفندر 23، استهدفت نقل رسالة محددة، وهي إظهار وحدة أعضائه أمام التهديدات الحالية والمحتملة، لا سيما من روسيا، وشملت المناورات تدريبات في أجواء ألمانيا والتشيك وإستونيا ولاتفيا.
خامسها: في هذه الأجواء التصعيدية من الجانبين (روسيا والغرب)، التي شاركت فيها مجموعة فاغنر، ستظل روسيا تتمسك بالأراضي التي احتلتها، بل وربما ستجدد هجومها للسيطرة على مناطق إضافية من الأقاليم الأوكرانية. لهذا فمن الواضح أن روسيا غير مستعدة للتفاوض على تسوية مرضية للطرفين، ولكن فقط فرض الشروط التي أعلنتها من قبل.
وفي المقابل لا تزال أوكرانيا تعمل في الضغط على روسيا لاستعادة شبه جزيرة القرم، التي تسيطر عليها روسيا، أو المناطق المتاخمة في شرق أوكرانيا، التي نجحت في ضمها للفضاء الروسي.
في المجمل ومع التطورات في ملف مجموعة فاغنر تبقى إشارات مهمة ترتبط بالمواجهات الراهنة في أوكرانيا التي ستحسم من خلال مواجهات طويلة ممتدة، وليس بالأسلحة النوعية المتطورة، والقادرة على تغيير موازين المعركة لصالح طرف على حساب آخر مع التوقع بحدوث كل الخيارات على الجانبين؛ أهمها ما يجري في روسيا.
ومنها احتمالات حدوث تغيير مفصلي في المؤسسة العسكرية الروسية مع التوقع بحدوث انقسامات حقيقية، وتمرد على الرئيس بوتين بعد أن استمر في حرب مفتوحة مع أوكرانيا ما يشجع على إحداث تمرد، وانقلاب حقيقي يوقف ما يجري في مستويات معينة.
فهل تقدم القوات المسلحة الروسية على الاستمرار في الحرب بأوكرانيا، أم تتوقف ليبدأ فصل جديد من المواجهات خارج ما جرى مع مجموعة فاغنر، التي ستظل محكومة بالنقاط التي تضمنها الاتفاق، التي ستخضع للمراجعة من قبل الطرفين، وأهمها إغلاق القضية الجنائية بحق قائد مجموعة فاغنر.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة