في كتابه "مصر الحديثة" الذي لخص فيه تجربة مصر تاريخاً وحاضراً ومستقبلاً، الذي صدر بالإنجليزية عام 1916 في 1248 صفحة، في مجلدين.
أورد اللورد كرومر تحليله لنفسية الإنسان المصري من خلال أغنية كانت منتشرة في زمانه، ولم تزل؛ لأنها من الفولكلور الشعبي…
واللورد كرومر من أكثر الشخصيات الاستعمارية شهرة، فقد تحكم في مصر والسودان في أخطر فترة من تاريخها تحت الاحتلال البريطاني، وأعاد تشكيل نظمها التعليمية والإدارية بصورة لم يفعلها غيره، فقد تولى منصب المندوب السامي البريطاني الذي يدير مصر والسودان حقيقةً رغم وجود الخديو صورةً منذ 1882 حتى 1906.
في هذا الكتاب الذي صدر قبل وفاته بعام واحد، وضع اللورد كرومر خلاصة تجربة امتدت نحو ربع قرن كان فيها الحاكم الفعلي لمصر والسودان، وأشرف على إعادة تشكيل كل شيء فيها، خصوصاً عقل الإنسان، الذي أولاه اهتماماً خاصاً من التدخل في وضع مناهج التربية والتعليم بما فيها التربية الدينية، إلى إنشاء كليات تنافس الأزهر وتحل محله؛ مثل كلية الحقوق التي أنشئت 1886، وكلية دار العلوم 1872.
كان اللورد كرومر يستمع إلى مطرب مصري يردد لساعة جملة واحدة، بكل المقامات الموسيقية، ويتطرب في تكرارها بصورة أصابته بالملل، وكلما سأل عن الترجمة يقال له نفس الجملة: "كل حبيب بجنبه حبيبه... وأنا حبيبي راح... يا مين يجيب لي حبيبي ع الفراش يرتاح"، تعجب ذلك المستعمر المشغول بتخدير رعايا الإمبراطورية، وضمان طاعتهم ورضاهم بحكمها، وعدم ثورتهم عليها، وأعجبه ذلك المعنى الذي تتضمنه هذه الأغنية الطربية التي تعكس النفسية المصرية لانسجام المصريين معها، وتكرارهم لها، وانتشارها بينهم.
إنسان مصري يحتاج إلى من يأتي له بحبيبه يرتاح بجواره على الفراش، هل من الممكن أن يثور على مستعمر، ويناضل من أجل أن يسترد حريته، واستقلال بلده…؟ هذه هي الخلاصة التي خرج بها اللورد كرومر من تلك السهرة الفنية، ذهب إلى بيته مرتاحاً، سعيداً بذلك الشعب الذي يبحث عمن يأتي له بحبيبه، خصوصاً أن الحب حاجة إنسانية فردية، هي أعظم الحاجات العاطفية، وأرقى الوجدانيات الانفعالية، فهي تدفع الإنسان للثورة من أجل الحبيب، وأحياناً الموت… فإذا كان ذلك المسترخي النائم ينادي في الناس باحثاً عمن "يجيب له حبيبه".. فأبشر بطول سلامة يا كرومر، أنت والإمبراطورية البريطانية.
بعد مرور قرن من الزمان على وفاة اللورد كرومر، وعلى صدور كتابه “Modern Egypt”، هل تغير شيء؟… سيقول لك تجار الثورة والمنتفعون بها، والمسجونون فيها.. نعم.. لقد قمنا بثورتين في 25 يناير/كانون الثاني وفي 30 يونيو/حزيران، والحقيقة أنهما فورتان سقط فيهما غطاء القدر من شدة غليان ما فيه، وما إن سقط الغطاء عن "الحلة" حتى طار البخار في الهواء وهدأ الغليان، وأصبح ما في "الحلة" ساخناً؛ ولكنه لا يحرك شيئاً، ولا يؤثر إلا في نفسه، ورجع المصري إلى عادته القديمة يدندن ليل نهار "يا مين يجيب حبيبي…!!"، أو "يا مين يجيب لي العيش واللحمة والفراخ، والمواصلات، والتعليم… إلخ!!"، "يا مين يشغّلني ويزوجني ويجيب لي شاليه في العين السخنة، أو الساحل الشمالي وفيلا في الشيخ زايد أو التجمع الخامس…!!، يا مين يجيب لي الديمقراطية، والحرية، والشفافية…!!، يا مين يرحمني من الفساد، ومن ظلم الموظفين…!!، يا مين يغششني في الامتحانات، ويعطيني أحسن شهادة من غير مذاكرة أو تعب…!!، يا مين يشغلني في أحسن وظيفة بأعلى دخل؛ وأنا مش فاهم فيها أي حاجة…!!، يا مين… يا مين…يا مين!!".
هذه الحالة من السلبية والانتظار للمجهول الذي سيأتي بالمعلوم، سيأتي بكل ما نحلم به ونتمناه، هذه الحالة التي يعرف فيها الإنسان المصري كل ما يريد، وما يتمنى، ولكنه لا يعرف كيف يحقق ما يريد، ويحصل على ما يتمنى، ولا يعرف من سيحقق له ما يريد، ويأتيه بما يتمنى…هذه الحالة أصبحت جزءاً أصيلاً في الشخصية المصرية بكل أطيافها، وبكل مستوياتها، وبكل خلفياتها، من أولئك الذين يحلمون بأن تعود مصر لمجدها وسالف عصرها، وتسترد مكانتها، ويجتمعون مع اللورد كرومر كل ليلة يطربون لأغنية "يا مين يجيب حبيبي…!!"، ثم ينامون متخاصمين متقاتلين.
وللأسف تطور الأداء المصري في هذا المجال تطوراً ملحوظاً، مع انتشار عقلية الربح السريع بالحرام قبل الحلال، وبالسرقة والغش والرشوة قبل العمل، وبالاستغلال والاحتكار والاتجار في أقوات الناس قبل الإنتاج… هذه العقلية التي حولت المصريين إلى نبَّاشين للقبور يحفرون ليل نهار في كل بقاع مصر بحثاً عن مطمورات الفراعنة، أو كنوز المساخيط، أو آثار الأجداد العظام لسرقتها وبيعها لتحقيق ضربة حظ تأتي بالثراء الخيالي دون عناء.
وانضم إلى المصريين إخوانهم في السودان ينادون ليل نهار منذ أربع سنوات "يا مين يجيب لي الديمقراطية والمدنية والحرية والتغيير" إلى أن جاءتهم فتنة لا تبقي ولا تذر، تهدد هذا البلد العظيم بالتفكك والخراب الشامل الكامل، وتضيع مستقبل العرب جميعاً في الكنز الزراعي القادر على إطعامهم من جوع في قادم الأيام خصوصاً أن السودان كان بلد الأمان والأمن من الخوف.
مات كرومر ورجعت مستعمراته بعد أكثر من قرن على موته تردد ما سمع من ذلك المطرب "يا مين يجيب لي أي حاجة أنا محتاجها"... شيء يعتصر القلب من الألم على أوطان لا يعرف قيمتها الإنسان.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة