عَرف صندوق النقد الدولي في القرن الماضي "العولمة الاقتصادية" بأنها التعاون الاقتصادي لجميع دول العالم بما يزيد حجم التعامل السلعي والخدمات المتنوعة عبر الحدود دون قيود.
تلك القيود أيضا تمت إزالتها عن رؤوس الأموال الدولية العابرة للقارات، عبر الانتشار المتسارع للتقنية في جميع أنحاء العالم، إذ ظهرت تلك العولمة الاقتصادية بوضوح في تبادل الدول للاقتصاديات القومية، كذلك تظهر في وحدة الأسواق المالية وفي المبادلات التجارية، أما ظهورها البارز فهو في إنشاء منظمة التجارة الدولية.
منظمة التجارة الدولية، رغم حالة العولمة الجارفة، التي قادت اقتصادات العالم إلى نمو هائل ما قبل كورونا، ورغم صراعات متفرقة في أماكن عدة من العالم، وقفت أمام الحرب الروسية الأوكرانية حائرة بين قوى تتصارع على هامش طموحات "بوتين" السوفييتية في البحر الأسود.
في البحر الأسود لم تكن أزمة سلاسل التوريد العالمية تتعلق فقط بالحبوب، "القمح والذرة"، بل تمددت إلى مدخلات إنتاج ومواد خام فرْملت صناعة السيارات والهواتف وبعض مكونات خطوط الغاز، حتى التي تمتلكها موسكو، والتي تمثل أداة القوة في صدّها العقوبات الأوروبية المدعومة من الغرب.
من الغرب إلى الشرق التقط العالم أنفاسه عندما أبحر 26500 طن من الذرة من ميناء أوديسا، مطلع أغسطس الجاري، في أول عملية تصدير زراعي من أوكرانيا منذ بدء الحرب، عبر ممرات آمنة، لتجد سلاسل الإمداد العالمية نفسها في نطاق ضيق مختنق بعد عقود من الحرية والعولمة الاقتصادية، التي على ما يبدو أن هناك من يدفع بها إلى "الأقلمة".
إقليميا تعرّضت سلاسل التوريد العالمية إلى أزمات مماثلة من قبل، كالتي حدثت في حرب تحرير سيناء عام 1973، حين توقف إمداد الغرب بالنفط العربي، لكن سرعان ما انضبط التوريد وعادت الإمدادات إلى طبيعتها في وقت لاحق من الحرب.
الحرب اليوم تختلف عن أي حرب شهدها التاريخ الحديث، خاصة مع تهديدها العالم بمجاعة حقيقية، حين استُخدم القمح كسلاح، لا كسلعة استراتيجية، وحين تحوّل الغاز الطبيعي إلى بارود ودانات للمدافع وورقة ضغط على المجتمع الدولي في شتى أنحاء الأرض، ما يثبت أن العولمة أقوى من فرضية "أقلمتها"، رغم تغير نظريات الحرب من قتالية إلى اقتصادية.
اقتصاديا، من السابق لأوانه الشعور بالتفاؤل جراء ممرات الحبوب الآمنة دون تحفظ، لأن مشكلات عديدة فاقمت تضخم أسعار المواد الغذائية، حتى قبل حرب أوكرانيا، ما زالت الأزمة موجودة، فقد بقيت أسعار الطاقة والكيماويات الزراعية عالية، ما جعل تشغيل المزارع المميكنة ونقل الغذاء عبر سلاسل التوريد مسألة مكلفة.
تلك التكلفة الزائدة -بعيدا عن روسيا وأوكرانيا اللتين تنتجان معا 25% من إنتاج القمح في العالم- تأتي تحت تأثير الطقس الحار والجفاف المدمر للمحاصيل الزراعية، من كندا إلى الصين، ومن فرنسا إلى أستراليا، ومن المنتظر أن يتصاعد تنوع وتطرف اضطرابات المناخ، ليطال أقاليم أخرى في العالم.
في العالم اقتصاداتٌ تعلّمت الدرس من أزمات سلاسل التوريد، وأخرى تقف متفرجة على ما ستسفر عنه نتيجة الحرب النهائية، وإلى أي معسكر ستكون الغلبة، فأما التي تعلّمت الدرس تحركت سريعًا لتأمين مخزونها من الحبوب والغذاء والطاقة، بما لا يستفز المُناخ، وأما التي تنتظر فعليها ألا تتوقع أن تحصد الخير في عصر "أقلمة" العالم، خاصة أنها لم تستطع حصده في زمن العولمة الكبرى.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة