الديون الأوروبية المرتبطة بالرفاهية.. فخ للاقتصادات

أثار المستشار الألماني فريدريش ميرتس جدلاً واسعاً بتصريحه أن بلاده «تعيش فوق إمكاناتها».
وانتقد ميرتس نظام المعاشات الذي يستهلك نحو 31% من الناتج المحلي الإجمالي لألمانيا. ووصف أحد وزرائه النظام بأنه بحاجة "عميقة وملحة للإصلاح"، فيما تعهد ميرتس بإجراءات تقشفية مؤلمة لحماية الأجيال الشابة من عبء الديون.
ووفقا لتقرير نشرته صحيفة "التليغراف" البريطانية، فإن أزمة ألمانيا ليست استثناءً أوروبياً، بل صورة أخف مما تشهده فرنسا. فقد أقرّ رئيس الوزراء الفرنسي السابق فرنسوا بايرو بأن "الإفراط في النزعة الرفاهية"، خصوصاً في ملف المعاشات، تسبب في الانفلات المالي. وطرحت الحكومة الفرنسية مقترحات مثل رفع سن التقاعد وإلغاء عطلتين رسميتين، لتوفير 44 مليار يورو (51.9 مليار دولار) سنوياً، لكنها واجهت غضباً شعبياً واسعاً وسحباً للثقة في البرلمان، ما عكس تمسك الفرنسيين بدولة الرعاية رغم الكلفة الاقتصادية.
وكانت بريطانيا قد انضمت بدورها إلى هذا المشهد. فحكومة كير ستارمر اضطرت إلى التراجع عن تقليص محدود للمخصصات الاجتماعية رغم امتلاكها أغلبية برلمانية، خوفاً من خسائر سياسية. ما يؤكد أن البريطانيين، مثل جيرانهم، يرفضون أي مساس بمزايا الرفاه.
التعامل مع المشكلة
الخطير في هذه الأزمات هو تفاوت التعامل معها. ففيما كان ميرتس وبايرو صريحين بشأن عدم استدامة الإنفاق، فإن ستارمر اختار تجاهل المشكلة. فرنسا حذّرت من احتمال اللجوء لصندوق النقد الدولي، وأكد ميرتس أن إصلاح المعاشات "ضرورة"، أما بريطانيا فتتجاهل الأزمة، ما ينذر بصدمة اقتصادية أكبر لاحقاً.
وتموَّل الديون الحكومية عادة من مؤسسات مالية وصناديق استثمار. لكن إذا شعر المستثمرون بأن دولة ما تفرط في الإنفاق، فإن ثقتهم تتراجع، وتزداد تكلفة الاقتراض. وهذا ما حدث في بريطانيا، حيث ارتفعت عوائد السندات بشكل حاد مؤخراً.
وتعكس الأرقام عمق الأزمة: العجز الألماني في 2024 بلغ 118.1 مليار يورو (139.6 مليار دولار)، بزيادة 15 ملياراً (17.7 مليار دولار) عن العام السابق. أما فرنسا فسجّلت عجزاً بلغ 168.6 مليار يورو (199.2 مليار دولار)، أي 5.8% من ناتجها المحلي، متجاوزة سقف منطقة اليورو البالغ 3%. التوقعات تشير إلى استمرار هذا الاتجاه لتصل النسبة إلى 6.14% بحلول 2030.
وفي بريطانيا، تم اقتراض 57.8 مليار جنيه استرليني (78.2 مليار دولار) بين أبريل/نيسان ويونيو/حزيران 2025، وهو رقم لم يُسجَّل منذ جائحة كورونا. كما تضاعفت فاتورة الفوائد السنوية من 8 إلى 16.4 مليار جنيه (10.8 - 22.2 مليار دولار). إجمالي الدين إلى الناتج المحلي بلغ 96.3%، مقارنة بـ62.5% في ألمانيا و114% في فرنسا، ما يضع بريطانيا في موقع حساس.
هوية الدائنين
ومصدر القلق الإضافي يكمن في هوية الدائنين. ففي بريطانيا، يمتلك بنك إنجلترا جزءاً من الدين، لكن جزءاً كبيراً بيد صناديق ومعاشات وجهات أجنبية، ما يجعل البلاد عرضة لتقلبات الأسواق. تحذيرات البنك المركزي من أن السياسات الحكومية تُبقي التضخم مرتفعاً لم تُؤخذ على محمل الجد، والسوق بدأت معاقبة لندن برفع كلفة الاقتراض.
وتاريخياً، عندما تفقد الأسواق ثقتها بدولة ما، تتوقف عن شراء ديونها، ما يجبرها على اتخاذ قرارات صعبة: إما تقشف داخلي بقرارات سياسية، أو تدخل خارجي من الأسواق أو صندوق النقد. وفي كل الأحوال، ستكون فاتورة دولة الرفاه مرتفعة.
وتعيش أوروبا الغربية اليوم لحظة مواجهة حقيقية. سنوات من السياسات الشعبوية والوعود الاجتماعية جعلت الدول تعيش فوق إمكاناتها. اليوم، لم تعد المشكلة في الاعتراف بالأزمة، بل في الشجاعة السياسية لمعالجتها. فالإصلاحات الضرورية في المعاشات والإنفاق الاجتماعي تقابل عادة برفض شعبي، لكن تجاهلها لم يعد ممكناً. وإذا لم تتحرك الحكومات طواعية، فإن الأسواق ستجبرها على التحرك بطرق أكثر قسوة.
كما خلص أحد المحللين الأوروبيين: "السؤال لم يعد ما إذا كان يجب إنهاء الإفراط في الإنفاق، بل كيف ومتى وبأي ثمن".
aXA6IDIxNi43My4yMTYuMTEg
جزيرة ام اند امز