بين وهم الرفاهية واختناق الطبقة الوسطى.. خبير فرنسي يشخص «المعضلة الباريسية» (حوار)
الدين العام أضحى «فخا قاتلا» والتقشف يفرض نفسه على أجيال المستقبل

في تحذير غير مسبوق، وصف رئيس الوزراء الفرنسي فرانسوا بايرو الدين العام بأنه "فخ قاتل" يهدد استقلالية القرار المالي لفرنسا.
وبينما تتجاوز نسبة العجز والدين العام الحدود الأوروبية المسموح بها، تجد الحكومة نفسها في سباق مع الزمن لكبح الانهيار المالي، وسط مقارنة محبطة مع جيرانها الأوروبيين الذين تمكنوا من تصحيح مسارهم المالي. فهل تنجح خطة بايرو قبل فوات الأوان؟
وقال البروفيسور جان-مارك بويي، اقتصادي أول في مركز دراسات الاقتصاد الأوروبي بباريس لـ"العين الإخبارية"، إن "ما نشهده اليوم هو نتيجة تراكمات بنيوية عمرها عقود، وليس مجرد أزمة ظرفية".
وأوضح بويي، أحد أبرز المتخصصين الفرنسيين في الاقتصاد الكلي والسياسات المالية العامة، أن فرنسا، وعلى عكس ما يُروج له سياسيًا، لم تدخل مرحلة الخطر فجأة، بل تراكم العجز والديون بطريقة هيكلية منذ أوائل التسعينيات.
وتابع: "المشكلة الجوهرية ليست فقط في نسبة العجز أو حجم الدين، بل في غياب إرادة سياسية مستمرة لإعادة هيكلة نموذج الإنفاق العام الفرنسي.
وتابع: "لدينا دولة رفاه اجتماعي مترهلة، ونظام ضرائبي ثقيل، لكن غير عادل في التوزيع، وطبقة وسطى تزداد اختناقًا. كل هذا يجعل من أي إصلاح مالي مهمة شاقة".
لماذا فرنسا "التلميذ السيئ" في أوروبا؟
وقال بويي إن دول أوروبية كانت تُصنَّف قبل عشر سنوات ضمن "الضعفاء"، مثل إسبانيا والبرتغال، تمكنت من إعادة التوازن إلى مالياتها من خلال ثلاث أدوات: إصلاح سوق العمل، وتبسيط الإدارة العامة، وزيادة كفاءة الضرائب دون زيادتها. أما فرنسا، بحسب رأيه، فقد اعتمدت على "الحلول المسكنة": زيادة الاقتراض بدل خفض الإنفاق، وزيادة الضرائب بدل إصلاح البنية الإدارية.
وتابع: "في فرنسا، كلما اقتربنا من استحقاق إصلاح حقيقي، يُجابه بصراخ النقابات، وتردد السياسيين. لا توجد ثقافة التوافق أو الرغبة في مصارحة الرأي العام بخطورة الوضع".
أزمة ثقة في المستقبل الاقتصادي
يشير الخبير إلى أن أحد أخطر آثار الدين العام الضخم هو تأثيره النفسي على المستثمرين الدوليين، الذين باتوا يرون في فرنسا "حالة شاذة" ضمن منطقة اليورو.
ورأى أن "اليوم، تكلفة خدمة الدين الفرنسي توازي تقريبًا ميزانية وزارة التعليم. ومع استمرار ارتفاع أسعار الفائدة، قد تتجاوز قريبًا بند الدفاع. هذا يقودنا إلى لحظة مفصلية: إما أن نُجري إصلاحًا جذريًا، أو نخاطر بفقدان السيطرة على السياسة المالية".
هل تنجح خطة بايرو؟
واعتبر بويي أن رئيس الوزراء فرانسوا بايرو يمتلك رؤية تقنية متماسكة، لكنه يفتقر حتى الآن إلى دعم سياسي كافٍ داخل الحكومة، خاصة في ظل هشاشة التحالفات البرلمانية واحتدام المعارك السياسية مع المعارضة اليمينية واليسارية على حد سواء.
ووفقًا للخبير الاقتصادي الفرنسي، فإن "بايرو لا يمتلك العصا السحرية. خطته الطموحة لخفض العجز إلى 3% بحلول 2029 قابلة للتحقيق، ولكنها تتطلب تقشفًا ذكيًا، وليس مجرد تقليص للإنفاق الاجتماعي. يجب تحسين أداء الدولة لا تفكيكها، ومكافحة الهدر دون الإضرار بالقطاعات الحيوية كالتعليم والصحة".
وشدد على أنه "إذا استمرت فرنسا في الاعتماد على الاقتراض المفرط، فإن الدين العام قد يصبح في غضون 10 سنوات المصدر الأول للعجز، وسببًا في فقدان الثقة الدولية، وربما تهديدًا لوضعها في منطقة اليورو. نحن نحتاج إلى إصلاحات مؤلمة... ولكنها ضرورية للبقاء دولة ذات سيادة اقتصادية".
فرنسا في أسوأ حالاتها المالية داخل أوروبا
ولعقود من الزمن، تعاني الميزانية الفرنسية من خلل بنيوي يتمثل في أن مداخيل الدولة، بما يشمل الخزينة العامة، الضمان الاجتماعي، والبلديات، تقل دائمًا عن نفقاتها. هذا العجز المزمن، المعروف باسم العجز العام، يتفاقم أكثر في ظل ضعف النمو الاقتصادي الذي تعاني منه البلاد حاليًا، ما يضيف عبئًا ماليًا إضافيًا على كاهل الدولة، بحسب صحيفة "لوفيغارو" الفرنسية.
في الاتحاد الأوروبي، تنص القواعد المالية على ألا يتجاوز العجز العام لأي دولة عضو نسبة 3% من الناتج المحلي الإجمالي، وذلك كضمان لاستقرار الدين العام. غير أن فرنسا تجاوزت هذا السقف بشكل مقلق.
العجز خارج السيطرة: فرنسا تسجّل أرقامًا قياسية سلبية
بلغ العجز العام الفرنسي 5.8% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2024، أي ما يعادل 168.6 مليار يورو، وهو رقم يتجاوز بكثير الحد الأقصى المسموح به أوروبيًا.
في محاولة لتصحيح الوضع، أعلن رئيس الوزراء فرانسوا بايرو عن خطة تقشف تدريجية تهدف إلى خفض العجز إلى 5.4% خلال هذا العام، ثم إلى 4.6% في عام 2026، مع التطلّع إلى العودة تحت عتبة الـ3% بحلول عام 2029.
لكن هذا الجدول الزمني يُعد بطيئًا مقارنة بما حققته دول أخرى مثل إسبانيا والبرتغال وإيطاليا، التي كانت سابقًا بمثابة"تلميذ سيئ" ماليًا، لكنها باتت الآن أكثر التزامًا بقواعد الاستقرار الأوروبي.
الدين العام الفرنسي: قنبلة موقوتة تنمو بصمت
ليس العجز وحده ما يثير القلق، بل أيضًا الدين العام الذي وصل إلى مستويات غير مسبوقة. فبحسب المعهد الوطني للإحصاء (INSEE)، بلغ الدين العام الفرنسي 3,345.4 مليار يورو بنهاية مارس/ آذار 2024، ما يعادل 113.9% من الناتج المحلي الإجمالي. وهو ثالث أعلى دين في منطقة اليورو، بعد اليونان وإيطاليا.
للمقارنة، كانت نسبة الدين العام الفرنسي 57.8% فقط من الناتج المحلي عام 1995. لكن على مدار العقود التالية، أدت الأزمات المالية، وجائحة كوفيد-19، وارتفاع معدلات التضخم، إلى تضخمه بشكل متسارع.
كرة ثلج من الفوائد تهدد الإنفاق العام
كلما ازداد حجم الدين، ارتفعت معه تكاليف خدمة الديون، أي الفوائد السنوية التي تدفعها الدولة. وقد زادت هذه التكاليف بشكل ملحوظ منذ عام 2022 بسبب ارتفاع أسعار الفائدة، وهو ما يثقل كاهل الميزانية العامة.
في عام 2025، قدّرت الدولة أن كلفة خدمة الدين ستبلغ 53 مليار يورو، بحسب التقرير السنوي لمتابعة خطة الميزانية الهيكلية متوسطة المدى المقدَّم في أبريل/ نيسان. ومع استمرار هذا المسار، فإن الدين مهدد بأن يصبح البند الأكبر في ميزانية الدولة، متجاوزًا التعليم والدفاع، حسب تحذيرات بيير موسكوفيتشي، الرئيس الأول لمحكمة الحسابات.
فرانسوا بايرو: في قلب المعركة المالية
ويجد رئيس الوزراء الجديد، فرانسوا بايرو، نفسه الآن في اختبار سياسي كبير وهو يواجه الجدار المالي الفرنسي. بعد عقدين من التحذير من انفجار الدين، بات عليه أن يبرهن عمليًا على قدرته في وضع خطة ناجعة للإنقاذ، ويُعتبر هذا الملف مفصليًا لمستقبل الاستثمار في قطاعات حيوية مثل التعليم، والعدالة، والانتقال البيئي.
ففي حال استمرار تدهور الوضع، لن تكون فرنسا فقط مخالفة للمعايير الأوروبية، بل قد تفقد أيضًا قدرتها على تمويل أولوياتها الاستراتيجية، ما يضع استقلاليتها المالية والاجتماعية على المحك.