دفن الإعلام الأميركي أحداثاً تجري على الأرض الأميركية، حتى سئل عنها أوباما في الهند، ثم في لاوس!
دفن الإعلام الأميركي أحداثاً تجري على الأرض الأميركية، حتى سئل عنها أوباما في الهند، ثم في لاوس! والأحداث تتعلق بالسكان الأصليين لأميركا. وأرجو أن نكف عن تسميتهم «بالهنود الحمر»، لأنهم يرفضون ذلك التعبير، لما يحمله من دلالات عنصرية ومرارات تاريخية، ويفضلون تعبير «السكان الأصليين».
والأحداث التي لم يذكرها الإعلام الأميركي، واجهها أوباما خارج بلاده!، ففي زيارتيه للهند ولاوس، في إطار جولته الآسيوية مؤخراً، سئل الرئيس الأميركي عن «موقفه مما يجرى في ولاية داكوتا الشمالية». وما يجري في الولاية لم يكن وليد اللحظة التي سئل فيها أوباما، ولكنه تفاقم بالتزامن معها، فاستدعى السؤال. ففي يوليو الماضي، بدأت وقائع القصة، حين أعلنت السلطات الفيدرالية الأميركية، أنها وافقت بشكل نهائي، وستبدأ فوراً في تنفيذ مشروع خط أنابيب للنفط، بتكلفة تصل لحوالي 4 مليارات دولار. وهو الذي سيحمل 470 ألف برميل بترول يومياً، ويمتد من الحدود مع كندا، وعبر أربع ولايات أميركية، ليصل في نهايته لولاية خامسة، هي ولاية إلينوي.
والمشروع أثار قلق السكان الأصليين وغضبهم، لأن الأرض التي سيمر فيها خط الأنابيب، خصوصاً في داكوتا الشمالية، بها مناطق مقدسة بالنسبة لهم، وفيها مواقع عدة لرفات أجدادهم. لذلك، رفعوا دعوى أمام القضاء الفيدرالي لوقف تنفيذ المشروع. وقد جاء في أوراق الدعوى، أن المشروع يهدد أوضاعهم «الاقتصادية والبيئية، ويدمر مواقع أثرية ذات أهمية دينية وتاريخية وثقافية» بالنسبة لهم. وأضافت الأوراق عبارة مهمة، تكشف عن موقع الأرض والمياه في ثقافات السكان الأصليين لأميركا، قائلة إن «رؤيتنا الشاملة للعالم، مبنية على العلاقة بالأرض والمياه وكل شيء حي. وهى العلاقة التي تحدد سلوكنا الشخصي وسلوكنا تجاه كوكب الأرض».
لكن السكان الأصليين قالوا أيضاً في دعواهم، إن خط الأنابيب تم الشروع في بنائه، رغم أنه ينتهك المعاهدات التي أبرمتها معهم الحكومات الفيدرالية المتعاقبة في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، ولا تزال سارية حتى الآن، (والتي لم تحترمها الحكومات الأميركية المتعاقبة بالمناسبة).
وقالت الدعوى أيضاً، إن الشروع في بناء ذلك المشروع دون استشارتهم، انتهك القرار التنفيذي الذي أصدره أوباما، ونص على ذلك التشاور. وقد وحّدت المعارضة للمشروع، الكثير من قبائل السكان الأصليين في طول البلاد وعرضها، كما لم يتوحدوا منذ حركتهم من أجل حقوقهم المدنية في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات من القرن العشرين.
ثقافة السكان الأصليين وعلاقتهم بالأرض والطبيعة من حولهم، علاقة فريدة فعلاً، إذا ما درس المرء تاريخهم. لكنها من زاوية أخرى، تجعلهم يقفون، في بعض المواقف، على أرضية مشتركة مع أنصار حماية البيئة، الذين رأوا في المشروع خطراً بيئياً يهدد بتلوث مياه البحيرة القريبة منه، والتي يعتمد عليها السكان الأصليون كمورد للمياه. وقد كتبت مجموعة من المنظمات البيئية خطاباً لأوباما، في بداية أغسطس، تدعوه لوقف البناء، وانتقدوا كلينتون التي التزمت الصمت إزاءه، ورفضت حملتها التعليق عليه، ولم يعر الكثيرون بالاً لغضب السكان الأصليين، خصوصاً أن أعضاء الكونغرس عن الولاية، فضلاً عن حاكمها، أيدوا المشروع.
وظل الإعلام الأميركي يتجاهله هو الآخر، وكأنه لا يحدث أصلاً!
لكن أوباما سئل عن الموضوع وهو على بعد آلاف الأميال أثناء زيارته للهند!، عندئذ، رفض الرئيس الأميركي تحديد موقف مما يجري، قائلاً إن هناك معركة أمام القضاء لم تحسم بعد. وقد ظل السكان الأصليون، ومعهم عشرات من المنظمات البيئية، فضلاً عن شخصيات معروفة، مثل برني ساندرز ومرشحة حزب الخضر للرئاسة، جيل ستاين، يثيرون القضية دون جدوى، إلى أن جاء حكم القضاء برفض دعوى السكان الأصليين لوقف بناء المشروع. وبمجرد صدور الحكم، اشتعل الغضب، وتظاهر المئات من السكان الأصليين وأنصار البيئة، وكانت معهم بالمناسبة جيل ستاين مرشحة الرئاسة، التي لا تزال تواجه الملاحقة القانونية، بسبب مشاركتها في تلك التظاهرات.
وقد اشتعل الموقف على هذا النحو، بينما أوباما في زيارته لآسيا، فسئل من جديد عن القضية حين وصل إلى لاوس، ما اضطره هذه المرة أن يجيب بشكل أوضح، فقال إن بعض القضايا الخاصة بأراضي السكان الأصليين، تدخل فيها تفاصيل تتعلق «بالقوانين والمعاهدات. لذلك لا يمكنني أن أقدم إجابة تفصيلية عن تلك القضية تحديداً، إذ ينبغي لي أن أطلب من جهازي الفني أن يبحث الموضوع».
لكن أوباما، الذي هو بالفعل أكثر الرؤساء الأميركيين إيجابية في ما يتعلق بالسكان الأصليين، عاد لبلاده وأوقف المشروع «مؤقتاً»، لحين «استيفاء السلطات الفيدرالية للدراسات البيئية» والاقتصادية اللازمة. عندئذ، وعندئذ فقط، ظهر الموضوع في الإعلام، ولكن كتغطية لقرارات الرئيس، لا لأوضاع السكان الأصليين، ولا لجيل ستاين مرشحة الرئاسة طبعاً!
اللافت في كل ذلك، هو أن الملاحقة القانونية لمرشحة رئاسية، هي جيل ستاين، خبر تنطبق عليه معايير «التسلية والترفيه»، التي تحكم تغطية الإعلام لانتخابات الرئاسة. لكن يبدو أن ستاين تخرق معياراً آخر للتغطية الإعلامية، هو أنها لا تنتمي للحزبين الكبيرين!
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة