التدخل التركي المباشر واحتلال جنودها ومرتزقتها مساحات من الأراضي الليبية عمّق جراح ليبيا والليبيين
كثيرةٌ هي المكاسب التي حققتها المواقف والتحذيرات المصرية التي أطلقها الرئيس عبد الفتاح السيسي بشأن تطورات المشهد الليبي، لم تقتصر على بعدها النفسي في الأوساط العربية الشعبية والرسمية، بل أكدت مجدداً أن القاهرة تمتلك مقومات الصدارة في الموقف فعلاً وتأثيراً وتحفيزاً، لمواجهة التحديات والمخاطر التي تتربص ببعض الدول العربية من قبل الطامعين ومشاريعهم التوسعية في الإقليم، مع القدرة على محاكاة المصالح الدولية المتقاطعة مع مصالح العرب هنا وهناك بفعل سياستها المتوازنة، القائمة على تمكين دعائمها من خلال التحالف العميق مع المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، والتمسك بسياسة احترام أشقائها العرب جميعهم وخياراتهم ومصالحهم الوجودية والاستراتيجية العليا ووضعها فوق كل الاعتبارات.
من نافل القول إن الموقف المصري التحذيري الجاد في مواجهة أطماع أردوغان التوسعية في ليبيا، يندرج تحت عنوان الواجب الذي تفرضه المصلحة العربية العليا ومصالح مصر الحيوية وحقها في حمايتها والدفاع عنها بشتى الوسائل الممكنة سياسياً إن أمكنها ذلك، أو اللجوء إلى خيارات دفاعية بطابع عسكري بعد أن وصل التهديد العدواني التركي إلى تخوم الجغرافية العربية في شمال إفريقيا، متسللاً عبر نافذة من نوافذ البوابة الليبية التي تديرها حكومة السراج وميليشياتها الإخوانية وقد افتضح دورها وارتهانها لمشروع أردوغان المعادي لتطلعات الشعب الليبي ولوحدة وتراب ليبيا واستقلالها وسيادتها، مع ما ينطوي عليه ذلك من مخاطر محدقة بالأمن الإقليمي عامة والأمن القومي والوطني للدول العربية المجاورة لليبيا.
سياسة الردع المصرية المتعلقة بليبيا استهلالٌ لمرحلة عربية جديدة في مواجهة الأطماع الخارجية من أي جهة أتت.
التدخل التركي المباشر واحتلال جنودها ومرتزقتها مساحات من الأراضي الليبية عمّق جراح ليبيا والليبيين، وأسهم في رفع درجة القلق في عموم دول المنطقة العربية منها والغربية وغيرهم، لما يعنيه من تحديات وما يرتبه من مخاطر على مصالح الجميع، إعلان القاهرة متبوعاً بموقف مصر على لسان الرئيس السيسي أفصحا عن اليقظة حيال المشاريع والأطماع الأردوغانية من ناحية، وشكلا من ناحية أخرى عامل تحريض للمجتمع الدولي برمّته للعمل على لجم هذه السياسة والحد من تبعاتها وأضرارها على مصالحهم وعلى الاستقرارين الإقليمي والعالمي، وبدا جلياً أن الموقف المصري حرّك المياه الراكدة في أكثر من عاصمة دولية، وانعكس في الخطى الحثيثة للدبلوماسية على أكثر من صعيد وفي أكثر من منبر، سعياً لدرء مخاطر الاندفاع التركي وما يخطط له أردوغان وما يمكن أن تحمله شظايا الساحة الليبية من تهديدات ومخاطر على مصالح اللاعبين المعنيين بهذا الملف على المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية لاحقا.
بين الإدراك المصري الدقيق للقدرات الذاتية وحجم التأييد والدعم الشعبي والعربي لهذا التوجه، وبين الإحساس بالمسؤولية العربية تجاه ليبيا دولةً وشعباً؛ رسمت مصرُ خطوطها الحمر على تخوم سرت والجفرة، وحددت مساراتها وعنونت ذلك بالشرعية الدولية، والدفاع عن حدودها الغربية، واستعادة الأمن والاستقرار على الساحة الليبية بيد أبنائها باعتبارها جزءاً من الأمن القومي المصري، بروز الموقف المصري بخطوطه الحمر واستراتيجيته الواضحة عزز مواقف الدول الغربية وتحديداً فرنسا وإيطاليا وألمانيا، المعارضين والرافضين لسياسة أردوغان ونزعته التوسعية وأساليب الابتزاز والمراوغة التي ينتهجها.
ترافق ذلك مع عدد من التطورات أبرزها التوتر بين أنقرة وموسكو وتأجيل اللقاء الوزاري الرباعي بينهما، على أن الأهم هو أن موقف القاهرة وضع أردوغان وجهاً لوجه في مواجهة سياسية مباشرة مع شركائه في الناتو، وهم إن لم يكونوا مستعدين لدعم التوجه المصري في ليبيا، فإنهم لن يتركوا الساحة الليبية نهباً لمخططات أردوغان، وسيجدون أنفسهم أكثر ميلاً لنزع فتيل الأزمة عبر آلية دولية تتقاطع مع الاستراتيجية المصرية للحل الليبي المُتَضَمَّنة بإعلان القاهرة وتأخذ هواجس ومصالح جميع الأطراف بعين الاعتبار، وبذلك يفرض العرب عبر الموقف المصري حضورهم على طاولة اللاعبين ويقطعون الطريق على محاولات أنقرة للاستفراد بالقرار المتعلق بواقع ومستقبل ليبيا.
سياسة الردع المصرية المتعلقة بليبيا استهلالٌ لمرحلة عربية جديدة في مواجهة الأطماع الخارجية من أي جهة أتت، تحتاج إلى تدعيم ركائزها بوحدة الموقف والهدف، وصون الاستقلال والسيادة، والعمل بين الأشقاء العرب والشركاء الدوليين الفاعلين المعنيين بالمسألة الليبية بعد أن تعدد وتنوع اللاعبون على أراضيها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة