منذ مارس/آذار عام 1979، حيث عقدت معاهدة السلام المصرية – الإسرائيلية، وخلال الأعوام الـ45 التي مرت من وقتها، لم تشهد علاقات البلدين فترة أكثر توتراً من هذه التي بدأت بالعدوان الإسرائيلي الدموي على غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 وحتى اليوم.
وخلال هذه الفترة التي قاربت الشهور الثمانية، ظلت إسرائيل، حكومة وأجهزة وإعلاماً، تطلق طوال الوقت موجات متتالية من الهجوم الصريح والخفي والشائعات تجاه مصر ومواقفها من العدوان الإسرائيلي خصوصاً ومجريات وتطورات والقضية الفلسطينية عموماً.
وتركزت هذه الموجات الإسرائيلية حول عدة موضوعات، كان منها الادعاء الإسرائيلي، الذي ذكره فريق الدفاع الرسمي أمام محكمة العدل الدولية، بأن مصر هي المسؤولة عن إغلاق معبر رفح من جانب أراضيها أمام تدفق المساعدات الإنسانية والإغاثية لقطاع غزة. كذلك، فقد تعددت المزاعم والاتهامات الإسرائيلية لمصر، وكان من بين من ادعوا هذا رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو نفسه، بأن هناك أنفاقاً لا تزال قائمة بين أراضيها وقطاع غزة تستفيد منها بطرق عديدة حماس.
وأتى آخر الاتهامات الإسرائيلية الكاذبة لمصر متمثلاً في الزعم بأن ممثليها في المفاوضات حول وقف إطلاق النار، قد غيروا في المسودات المقدمة للطرفين الإسرائيلي والفلسطيني، وهو ما نقله عن مصادر إسرائيلية موقع قناة CNN الإخبارية الأمريكية الأسبوع الماضي.
وأثناء إشاعة هذه الكذبة الجديدة – الصارخة هذه المرة – دعت السلطات الإسرائيلية الجانب المصري للسماح بدخول شاحنات المساعدات الإنسانية من رفح المصرية عبر المعبر ليتسلمها في رفح الفلسطينية جيشها الذي احتل مدخل المعبر هناك. وسرعان ما أعلنت السلطات المصرية رفضها لهذا العرض الإسرائيلي، حتى لا تمنح اعترافاً مصرياً بشرعية الاحتلال الإسرائيلي للجانب الفلسطيني من المعبر، مصرّة على ألا تتعامل سوى مع طرف فلسطيني يدير هذا الجانب، ومعلنة أنها لن تستجيب لهذا "الابتزاز" الإسرائيلي لتعاطف مصر وحماستها لمد الأشقاء الفلسطينيين في غزة بكل ما يلزمهم من مساعدات إنسانية.
وفي ظل كل هذا، يبدو منطقياً التساؤل حول الدوافع الإسرائيلية لتلك الموجات المتتالية من الهجوم الصريح والخفي والشائعات تجاه مصر ومواقفها. والأرجح أن إسرائيل لم تتوقع منذ البداية المواقف المصرية الحاسمة والسريعة وشديدة الوضوح تجاه عدوانها الدموي على قطاع غزة، وتوهمت أن مصر سوف توازن بين معاهدة السلام التي تربطها بها وبين مواقف "لينة" أو "مائعة" تتخذها تجاه هذا العدوان.
وكان إعلان الرئيس عبدالفتاح السيسي قبل مرور أسبوع على بدء العدوان، وبالتحديد يوم 12 أكتوبر/تشرين الأول 2023، من مقر الأكاديمية العسكرية المصرية مفاجئاً للغاية لإسرائيل، حيث أبرز الخطورة الكبيرة لما يجري في قطاع غزة خصوصاً محاولات التهجير القسري للفلسطينيين منه تجاه الأراضي المصرية. وربط في كلمته بين كون هذا خطاً أحمر بالنسبة لحفاظ مصر على أمنها القومي، وبين أنه يعني تصفية القضية الفلسطينية، التي وصفها بأنها قضية القضايا للعرب كلهم.
وكانت هذه الرسالة المصرية المبكرة جداً هي الخط الرئيسي الأول الذي عملت عليه الدولة المصرية كاملة منذ إعلانها، ليصبح رفض "تهجير الفلسطينيين" قسراً أو طوعاً، هو محل إجماع كل دول العالم بلا استثناء واحد سوى قطاعات من النخبة الإسرائيلية الحاكمة خصوصاً المتطرفة دينياً وسياسياً.
وأتى الموقف المصري الاستراتيجي الثاني الذي بدأ أيضاً مبكراً وأضحى اليوم محلاً لتوافق واسع غير مسبوق من الغالبية الساحقة من دول العالم، وهو طرح الرئيس السيسي أن يتبع العالم نموذجاً آخر مختلفاً لتأسيس الدولة الفلسطينية، بأن يتم الاعتراف الدولي والأممي بها وترفع الأمم المتحدة عضويتها فيها من "دولة مراقب غير عضو" إلى دولة كاملة العضوية فيها. وبدا الهدف الرئيسي من هذا الطرح هو أنه سيجعل من التفاوض بين الدولة الفلسطينية وإسرائيل بين دولتين تملكان العضوية في الأمم المتحدة، حول القضايا النهائية المختلف حولها بينهما، ولا يرهن الاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة، بنتائج هذه المفاوضات، ولا بإرادة إسرائيل وحدها.
هذان الخطان الاستراتيجيان الرئيسيان، بالإضافة إلى تمسك مصر في وساطتها النشطة من أجل التوصل لاتفاق لوقف نهائي لإطلاق النار بمواقفها المبدئية من الحقوق الفلسطينية المستندة لقرارات الشرعية الدولية والقانون الدولي وعدم التفريط أو التنازل عنها، قد أزعج كثيراً الجانب الإسرائيلي الذي كما سبق القول كان يتوقع مواقف "لينة" أو "مائعة" من القاهرة أثناء وساطتها بينه وبين الطرف الفلسطيني.
هذه على الأرجح الأسباب الفعلية وراء الموجات الإسرائيلية المتتالية من الهجوم الصريح والخفي والشائعات تجاه مصر ومواقفها، منذ بدء العدوان على غزة وحتى اليوم.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة