كان هناك شبه إجماع من قبل بلدان العالم في إدانة القرارات المتخذة من جانب واحد، والتي تهدد بنشوب حروب تجارية.
تنحو التطورات بشكل متسارع نحو إجبار الولايات المتحدة على التركيز في هدفها الرئيسي من إصدار قرارها بزيادة رسومها الجمركية بنسبة 25% على وارداتها من الصلب، و10%على وارداتها من الألومنيوم لتقتصر على طرف وحيد؛ فالصين بفائضها التجاري الكبير الذي بلغ في العام الماضي نحو 375 مليار دولار كانت ولا تزال الهدف الأكبر الذي تستهدفه هذه القرارات.
رغم أن بكين ما زالت حتى اللحظة تتمسك بالحوار وعدم اللجوء لقرارات فردية تخص التجارة متعددة الأطراف وتدعو إلى احترام قواعد التجارة الحرة التي ترعاها منظمة التجارة العالمية، إلا أنها في الوقت ذاته أعلنت أنها ستتخذ القرارات الملائمة للدفاع عن مصالحها المشروعة
ومن الطبيعي أن تكون التطورات سريعة بحكم أن القرارات على وشك الدخول لحيز النفاذ، ومن بين هذه التطورات البداية بإعفاء الرئيس الأمريكي كلاً من كندا والمكسيك من الرسوم الجمركية المقترحة؛ لأنه يجري التفاوض لإعادة صياغة اتفاقية التجارة الحرة لشمال أمريكا (النافتا) التي تضم البلدان الثلاثة، ولا جدال أنه سيحدث تنازل ما من قِبل كل من كندا والمكسيك لصالح الولايات المتحدة في بعض الصناعات المهمة وعلى رأسها صناعة السيارات، حيث تطالب الولايات المتحدة بأن تكون كل السيارات المنتجة في البلدان الثلاثة تحتوي على 50% على الأقل من الأجزاء والمكونات المصنعة في الولايات المتحدة، وبينما لا يزال هناك خلاف حتى الآن على هذا المطلب الأمريكي، إلا أن المفاوضات يبدو أنها تتجه لصالح التوصل لاتفاق ما؛ إذ عبّر رئيس الوزراء الكندي يوم الأربعاء الماضي عن تفاؤله بانفتاح المجال أمام التوصل لاتفاق بين أطراف النافتا، وعبر عن نفس الموقف الممثل التجاري الأمريكي لايت هايزر الذي صرح أمام إحدى لجان الكونجرس بأن مواقف البلدان الثلاثة تتجه الآن نحو التقارب بشأن تعديل اتفاقية النافتا. ولا شك أن استثناء كندا والمكسيك كان له بعض الفضل في هذا التقارب؛ لكون كندا كانت أكبر مصدر لكل من الصلب (5 مليارات دولار) والألومنيوم (7 مليارات دولار) للولايات المتحدة، كما أن المكسيك كانت أيضاً من بين كبار مصدري الصلب للولايات المتحدة (2.5 مليار دولار) خلال العام الماضي.
وحسب تصريحات الممثل التجاري الأمريكي فإنه تجري أيضاً مفاوضات لإعفاء عدد من الأطراف الأخرى من بينها الاتحاد الأوروبي، وكوريا الجنوبية التي تضمها اتفاقية للتجارة الحرة مع الولايات المتحدة، ودول أخرى كالأرجنتين والبرازيل. والموقف الأوروبي كان متميزاً في هذا السياق؛ إذ بمجرد إعلان الولايات المتحدة عن قراراتها سارع العديد من المسؤولين الأوروبيين للتهديد بفرض تعريفات جمركية مرتفعة على صادرات أمريكا لدول الاتحاد. ونشير هنا إلى أن صادرات الاتحاد الأوروبي من الصلب للولايات المتحدة كانت هي الأعلى في العام الماضي، حيث بلغت قيمتها ما يزيد على ستة مليارات دولار. وتنفرد ألمانيا بالموقف الأكثر تشدداً، والذي أعادت التأكيد عليه المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل يوم 21 مارس الماضي، وهو ما يعد أمراً طبيعياً في ظل تنديد الرئيس ترامب منذ دعايته الانتخابية في عام 2016 بالفائض التجاري الذي تحققه ألمانيا مع بلاده، كما كان لافتاً في نفس السياق أن رد ترامب على تصريحات المسؤولين الأوروبيين بشأن الصادرات الأمريكية في حال الاستمرار في فرض رسومها الجمركية هو القول بأنه إذا ما فعلت أوروبا ذلك، فإن الولايات المتحدة ستستهدف السيارات الأوروبية المصدرة لها، ومن المعروف أن ألمانيا هي أكبر دول الاتحاد المصدرة للسيارات للسوق الأمريكي.
والأكثر أهمية في هذا السياق أن كلاً من كندا والمكسيك والاتحاد الأوروبي وكوريا الجنوبية تمتلك حجة قوية في هذا الشأن؛ إذ تشير إلى أنها بلدان حليفة سياسياً وعسكرياً للولايات المتحدة، فكيف تستهدفها قرارات تتخذها الولايات المتحدة بزعم أن وارداتها من الصلب والألومنيوم تعد تهديداً للأمن القومي الأمريكي وفقاً للمادة 232 من قانون التجارة الأمريكي لعام 1962؟
والواقع أنه كان هناك شبه إجماع من قبل بلدان العالم في إدانة القرارات المتخذة من جانب واحد، والتي تهدد بنشوب حروب تجارية، وتهدد من ثم بتسديد ضربة قوية للنمو والرخاء الاقتصادي العالمي. وقد عبر عن هذا الموقف يوم الثلاثاء الماضي كل من منظمة التجارة العالمية التي عقدت اجتماعاً غير رسمي لها في العاصمة الهندية برئاسة المدير العام للمنظمة البرازيلي إزيفيدو، وكذلك اجتماع وزراء مالية دول مجموعة العشرين بالأرجنتين الذي طالب بالمزيد من التشاور وعبر عن مخاوفه من حروب التجارة.
وتبدو فرص التوصل إلى تسوية أمريكية مع بعض بلدان العالم الثالث المصدرة للمعدنين للولايات المتحدة كالبرازيل والهند ممكنة في ضوء أهمية كل من البلدين في منظمة التجارة العالمية، وربما أيضاً من أجل عزل موقف الصين التي تضمها مع البلدين المذكورين إلى جانب روسيا وجنوب أفريقيا مجموعة البريكس.
وسوف تزداد المواجهة عمقاً بين الولايات المتحدة والصين مع إصدار الرئيس الأمريكي قرارات عقابية بحق صادرات صينية من منتجات الاتصالات والتكنولوجيا المتقدمة تبلغ قيمتها 60 مليار دولار لبلاده، وذلك كعقاب لها على انتهاكها حقوق الملكية الفكرية الأمريكية. وربما تتجه واشنطن أيضاً كما أعلن وزير الخزانة لفرض قيود على حركة الاستثمارات الصينية.
ورغم أن بكين ما زالت حتى اللحظة تتمسك بالحوار وعدم اللجوء لقرارات فردية تخص التجارة متعددة الأطراف، وتدعو إلى احترام قواعد التجارة الحرة التي ترعاها منظمة التجارة العالمية، إلا أنها في الوقت ذاته أعلنت أنها ستتخذ القرارات الملائمة للدفاع عن مصالحها المشروعة.
فهل يكون استهداف الصين وحدها سبباً في مراجعة موقفها؟ أم على العكس ربما يدفعها ذلك لسرعة الرد، خاصة أنها تعد ثاني أكبر قوة تجارية في العالم، وثالث أهم سوق للصادرات الأمريكية؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة