يقول الكاتب المسرحي برتولد بريخت: «عندما تبدأ الجرائم في التراكم، فإنها تصير غير مرئية، وعندما تصبح المعاناة غير محتملة فلن تكون الصرخات مسموعة؛
يقول الكاتب المسرحي برتولد بريخت: «عندما تبدأ الجرائم في التراكم، فإنها تصير غير مرئية، وعندما تصبح المعاناة غير محتملة فلن تكون الصرخات مسموعة؛ هكذا تسقط الصرخات، تماماً، مثلما يسقط المطر في الشتاء».. أجل لم تعد معاناة البشر تعني الشيء الكثير بالنسبة للدول والقوى الدولية الكبرى التي تحرص على ضمان مصالحها أكثر مما تحرص على حقن دماء الأبرياء، لقد تراجعت أوليّة السلم العالمي بالنسبة للقوى الكبرى، وأضحى العالم يتجه شيئاً فشيئاً نحو مزيد من المواجهة المفتوحة، بعد أن تضاعفت بؤر الأزمات وانحصرت مناطق الهدوء والسلم والسكينة، وكادت الجغرافيا العالمية برمتها أن تتحوّل إلى مناطق رمادية قابلة للانفجار في أي لحظة.
وقد دفعت هذه الوضعية الدراماتيكية المتسارعة بعض المحللين والفاعلين في مسرح الأحداث العالمي إلى التأكيد بأن الجغرافيا السياسية الراهنة، تشير إلى أن هناك فضاءات عديدة في العالم تساعد بشكل كبير على انتشار الحروب والنزاعات المسلحة، وتتمركز بشكل رئيسي على مستوى ما أضحى يعرف ب«قوس الأزمة»، وهي منطقة شاسعة وغير متجانسة وتتشكل من مجموعات إقليمية تضم المناطق الآتية: أجزاء من البلقان، منطقة الساحل والقرن الإفريقي، الشرق الأوسط، إيران، أفغانستان وباكستان، ومناطق من المحيط الهندي.
وتتميز هذه المناطق بصراعات متعددة بعضها يتخذ طابعاً حدودياً (حالة: الهند وباكستان)، ويتعلق البعض الآخر بانتشار الإرهاب والجماعات الإجرامية المسلحة، وهناك صراعات أخرى يغلب عليها الطابع العرقي والطائفي ، والأمثلة على ذلك عديدة ومن الصعب حصرها في هذه العجالة. ونستطيع أن نقول في هذا السياق إن الصراع العربي - الصهيوني يظل أكثر هذه الصراعات تهديداً لأمن واستقرار الشرق الأوسط والعالم برمته، نتيجة للقدرات التدميرية الهائلة التي باتت تمتلكها «إسرائيل» بتأييد ومباركة من الدول الغربية.
وعليه فإنه إضافة إلى قوس الأزمة الذي أشرنا إليه آنفاً، والذي بات يتميز بهيمنة 3 مناطق يمكنها أن تشكل تهديداً كبيراً للسلم العالمي هي سوريا، العراق وليبيا، هناك أيضاً فضاءات جغرافية عديدة نستطيع أن نصفها بالمناطق الرمادية، التي تعرف حالياً سلماً هشاً ونزاعات داخلية حادة يمكنها أن تتحول في أي لحظة إلى مناطق حروب مفتوحة، وقد بدأت هذه المناطق الرمادية في التشكل بطريقة لافتة بداية من سنة 1990، أي مباشرة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي الذي ساهم غيابه المفاجئ في تفكك كثير من الدول الوطنية ، وفي نشوء دول أخرى بناءً على هويات جزئية. وتوجد هذه المناطق الرمادية في المناطق الأوروبية المحيطة بالبلقان، والقوقاز، وفي آسيا الوسطى، ومنطقة البحيرات الكبرى في إفريقيا، وفي أمريكا الجنوبية؛ وترتبط هذه المنطقة بوجود دول ضعيفة تتجه في مجملها نحو التحوّل إلى دول فاشلة وتقع في نطاق حدود متحركة يمكنها أن تمتد وتتوسع بشكل سريع، نحو مناطق تبدو حتى الآن مستقرة، وفق التصنيفات التي يضعها خبراء السياسة الدولية.
وبالرغم من اختلاف الاجتهادات المتعلقة بتعريف المناطق الرمادية في العالم ، فإنه يمكن القول إن عولمة المبادلات التجارية وتطور تكنولوجيات الاتصال الحديثة، أدى إلى خروج مناطق عديدة في العالم من عزلتها الجغرافية، ودخولها في معترك المبادلات الدولية بطريقة فوضوية وعشوائية بعيداً عن رقابة الدول الوطنية التي كانت تتحكم في حدودها وترابها الوطني قبل الزلزال الذي وقع بعد نهاية الحرب الباردة، وبالتالي فالمناطق المعزولة التي كانت موجودة ولكن مهمشة في مراحل سابقة في مختلف الدول، دخلت على خط العولمة الجديدة دون أن تصبح جزءاً من الكيان الدولوي أو الوطني الذي من المفترض أنها تشكل جزءاً من جغرافيته السياسية. واللافت للنظر في هذه المناطق الرمادية، هو أنها تخضع في جزء منها على الأقل، إلى التنافس الذي بدأ يطفو على السطح بين الولايات المتحدة وروسيا منذ وصول فلاديمير بوتين إلى الحكم ، وقيامه بتغيير قواعد العقيدة العسكرية الروسية في مواجهة الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.
وتلعب مراكز البحث الأمريكية الدور الأبرز في تحديد قائمة الدول التي يمكن وضعها في المنطقة الرمادية، أو الحكم عليها بأنها تتجه نحو الفشل، ومن ثمة فإن هذا المفهوم وعلى الرغم من أهميته الجيواستراتيجية والإجرائية في قراءة وفهم طبيعة الرهانات الحاصلة على مستوى المشهد الدولي الراهن، إلا أنه يجري التلاعب بدلالاته ومضامينه من قبل هذه المراكز من أجل التأثير في سياسات الدول المعنية بهذه الدراسات، وبهدف دفع الإدارة الأمريكية إلى تبني سياسات جديدة تجاهها.
ونستطيع أن نخلص بناءً على ما تقدم إلى أن العناصر التي يتم اعتمادها من أجل الحكم على دخول دول بعينها إلى المنطقة الرمادية، تتسم في كثير من الحالات، بالعمومية الشديدة ويمكن أن تصدق في جانب منها، على كل دول العالم بما فيها تلك المصنفة في خانة الدول الكبرى. لأن الهشاشة التي باتت تميز الاقتصاد العالمي، فرضت على الدول الوطنية التخلي عن قسم معتبر من واجباتها والتزاماتها في مجال الرعاية الاجتماعية، ومن ثمة فإن معيار الفشل لا يخضع فقط لمعطيات كمية وتجريبية قابلة للملاحظة المباشرة، ولكنه يتصل في الآن نفسه، بجملة من العوامل الحضارية والهوياتية التي تمثل المخزون الثقافي والتاريخي للشعوب، التي تمتلك مقومات الاستقرار المؤسساتي والمجتمعي ويمكنها من ثمة أن تسهم، ولو بقسط متواضع، في ترسيخ مقومات السلم العالمي.
*نقلا عن جريدة "الخليج"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة