الفيلسوف البلجيكي الجنسية، روسي الأصل، إيليا بريغوجين، صاحب نظرية شهيرة متعلقة بالزمن في علم "ترموديناميكا النظم البعيدة"، تحدث ذات مرة عن المستقبل وكيفية التنبؤ به في ضوء القطع بأن: "المفهوم الكلاسيكي المجرد للزمن قاد لإلغائه".
فقال بريغوجين إن أفضل طريق للتنبؤ بالمستقبل هو "صناعته".
منذ بضعة أيام أعلن الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس دولة الإمارات، عام 2023 عاما للاستدامة، ولفت النظر الشعار الذي تم اختياره لهذه المناسبة، وهو "اليوم للغد"، الأمر الذي يمكن اعتباره رؤية استشرافية لقائد قابض على جمر المستقبل المنطلق من اليوم، بهدف الوصول إلى ضفاف الغد بأمان.
في الإعلان عينه، نجد روح الوفاء والولاء لذكرى الوالد المؤسس الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيّب الله ثراه، رجل التنمية المستدامة الكبير، والذي وضع لَبِنات الصرح الإماراتي الحديث، بصورته التقدمية الآنية "من البشر، قبل الحجر".
يمكن للباحث المحقق والمدقق في تاريخ دولة الإمارات منذ ستينيات القرن المنصرم، أي حين تولى الشيخ زايد بن سلطان حكم إمارة أبوظبي، القطع بأن رؤية تنموية تهتم بعناصر البيئة كافة قد وجدت طريقها للتنفيذ على الأرض، وبتساوق تام مع نهضة الصناعات النفطية، التي وُجدت في بدايات مسيرتها.
ويمكن للمرء أن ينسى، لكنه لا ينسى كلمات الشيخ زايد بن سلطان، طيّب الله ثراه، عام 2003، في المؤتمر الخاص بمكافحة التصحر في أبوظبي، حيث قال: "دولة الإمارات استطاعت التعايش مع البيئة الصحراوية، التي تشكل ثلاثة أرباع مساحتها، والتكيف مع مواردها لسنوات طويلة، وإنه بفضل جهود أبناء الإمارات المخلصين، استطاعت الدولة قهر الظروف الصعبة، وتحقيق ما اعتبره الخبراء مستحيلا، فبدأت الرقعة الخضراء تتسع، والصحراء تتراجع أمام اللون الأخضر".
اليوم يقود الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، دولة الإمارات، في زمن عالمي، يطلق عليه كبار المفكرين "عصر الاضطراب"، لكن نجاعة التجربة الإماراتية والحكم الرشيد في الإمارات يجعلانها تقفز فوق صعوبات وتحديات اللحظة الراهنة، وفي المقدمة منها التحدي الأكبر للكرة الأرضية برمتها، تحدي المُناخ، وها هي دولة الإمارات تقود السفينة الأممية في طريق التحضير لمؤتمر المناخ العالمي، "كوب-28"، في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.
ما الذي يعنيه "عام الاستدامة" بالنسبة لثروة دولة الإمارات الحقيقية، المتمثلة في شبابها وعلمائها على المستويات كافة وفي مختلف مناحي الحياة؟
يمكن القطع، دون تهوين أو تهويل، أن دولة الإمارات، التي تسعى للوجود على سطح كوكب المريخ في 2070، أي مع الذكرى المائة لتأسيس الدولة، تعمل من اليوم، لكي يكون الصعود والارتقاء طبيعيا وبجدارة، عبر نشر الوعي حول قضايا الاستدامة البيئية من جهة، وتشجيع المشاركة المجتمعية في تحقيق استدامة التنمية ودعم الاستراتيجيات الوطنية في هذا المجال، وبهدف بناء مستقبل أكثر رخاء وازدهارا.
دائما وأبدا، آمنت القيادة الإماراتية بأن الانتصارات الدائمة والحقيقية، لا المؤقتة والزائفة، لا يمهد لها الطرق سوى الوعي، والوعي يستحيل أن يتحقق إلا بالمعرفة الإنسانية، وهذه لا تُكتسب من غير تجارب خلاقة تغير الأوضاع وتُبدّل الطِّباع.
في هذا السياق، يمكن للمرء أن يتفهم ما أشار إليه رئيس دولة الإمارات من أن بلاده قدّمت نموذجا مميزا في مجال الحفاظ على البيئة وصيانة الموارد، واليوم تمتد الرؤية بهدف مجابهة العقبات الأممية، التي تعوق تاريخ الإنسانية برمتها، لا الشعب الإماراتي فقط، وهذا ما يميز الرؤية الإماراتية، كونها رؤية كوزمولوجية، تسعى في إطار روح الأخوة الإنسانية وتحقيق الخير العام لكل البشر.
يتيح عام الاستدامة فرصة لتجسيد السجل الثري لدولة الإمارات في الحفاظ على الاستدامة كمبنى ومعنى، وكخطط وبرامج، من خلال مبادراتها وجهودها واستراتيجياتها الملهمة في هذا المجال، وفي مقدمتها "المبادرة الاستراتيجية لتحقيق الحياد المناخي 2050"، والتي تؤكد التزام الدولة تعزيز حماية البيئة والتقدم الاقتصادي، وترسيخ مكانة الدولة كوجهة مثالية للعيش وإنشاء مجتمعات مزدهرة.
تمضي دولة الإمارات يوما تلو الآخر في إثر أفكار الابتكار، التي تضفي على شعبها والعالم من حولها، كل ما هو جديد ومفيد، وخلافا للمألوف والمعروف والموصوف، من طرائق تقليدية في معالجة أزمات القضايا الحياتية.
من ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، دورها في تعزيز العمل الدولي في مجال الطاقة النظيفة، وبناء الشراكات الفاعلة، ما يعود حكما بالفائدة على العالم أجمع.
تبدو دولة الإمارات في عام الاستدامة قامة سامقة وشامخة، تتشارك مع كبريات الدول، كالولايات المتحدة الأمريكية، في مشروعات تجنّب الكوكب الأزرق ويلات الاحتباس الحراري، وتداريه وتواريه من غضبات الطبيعة وثورات المناخ.
ما الذي يتبقى قبل الانصراف؟
في البداية تساءلنا عن أفضل طريق للتنبؤ بالمستقبل، وفي الانصراف يعن لنا كذلك أن نطرح علامة استفهام عمّن يغير مسار العالم، لا سيما في أوقات المِحن والملمات؟
الجواب نجده عند الفيلسوف الألماني "جورج هيجل"، 1770-1831، وفيه يقر بأن: "القادة الاستثنائيين هم القادرون جملة وتفصيلا على فعل ذلك".
في عام الاستدامة، يعاود الشعب الإماراتي أول الأمر وآخره، اكتشاف قادة مسيرته التنويرية، من الرجال الاستثنائيين، الذين لم يغادروا حاضرات أيامنا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة