"قوس النصر" في باريس.. نيران شغب تشوه رمز شعب
يوم واحد كان كفيلا بتحويل المشهد الجمالي لـ"قوس النصر" إلى لوحة قاتمة تئن أوصالها تحت ثقل تخريب ونهب طال تلك الواجهة الشامخة
قبل أكثر من أسبوعين، كانت الصور التذكارية التي يلتقطها الزوار المتناثرون حول "قوس النصر" المنتصب في قلب باريس، تنبض جمالا وحياة كما عاصمة الأنوار.
لكن يوما واحدا، كان كفيلا بتحويل ذلك المشهد الجمالي إلى لوحة قاتمة تئن أوصالها تحت ثقل تخريب ونهب طال تلك الواجهة الشامخة التي يعتبرها الفرنسيون رمز وحدتهم، شاهدا على خريف حل قبل أوانه.
وعصر السبت، تعرض "قوس النصر" الواقع وسط ساحة "شارل ديغول"، بالطرف الغربي من شارع "شانزليزيه" بقلب باريس، لأعمال تخريب ونهب طالت الأثاث والأعمال الفنيّة وأجهزة الكمبيوتر، إضافة إلى تشويه جدرانه بشعارات كتبت بالطلاء.
عملية تخريب ونهب "منظمة"، وفق مصادر فرنسية، ترافقت مع مظاهرات "السترات الصفراء" المنددة بزيادة أسعار الوقود والضرائب الموظفة عليه، أسفرت عن أضرار جسيمة قد تصل كلفتها إلى مليون يورو، وفق فيليب بيلافال، رئيس مركز الآثار الوطنية (حكومي).
وأثار استهداف المعلم الأثري الشهير استياء محليا عارما وتنديدا واسعا من منظمات الآثار، ممن استنكرت تخريب ونهب مبنى برمزية "قوس النصر".
"قوس النصر".. موجة شغب تدمر تاريخا
من يزور باريس فلن يفوّت بالتأكيد المرور بجانب "قوس النصر"، وحتى إن لم يكن على علم بتفاصيل العاصمة الفرنسية، فإن جولته في شارع "شانزليزيه" الشهير، ستحمله حتما إلى المعلم المنتصب في جزئه الغربي.
هو أحد المعالم الأكثر شهرة في باريس، يتوسط ساحة "شارل ديغول" التي كانت تسمى سابقا ساحة "النجمة"، بشارع يعدّ نبض العاصمة الفرنسية.
ومع أن صيت وشهرة القوس واسعة لدرجة أنه لا يمكن لمن يزور المدينة الحالمة أن يمر به، إلا أن كثيرين يخلطون بينه وبين القوس الأصغر، وقوس النصر "دو فرسان"، غربي متحف اللوفر بباريس.
خلط وارد، لكن ما يتميز به قوس النصر بالنسبة للعارفين، يجعل منه معلما فريدا من نوعه.
فحين تقع عينا المرء على المبنى، فإن أول ما يلاحظه هو تلك الكلمات المنقوشة على الجدران أسفل القوس، والذي يغطي مقبرة جندي مجهول مات في الحرب العالمية الأولى، وشعلة خالدة تشتعل تمجيدا للقتلى المجهولين في الحربين العالميتين.
وبني المعلم على شكل قوس في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وتحديدا بالفترة بين 1806 و1836، ليحل مكان قنطرة من المنحوتات القديمة.
ويرى المؤرخون في التعديلات التي أدخلت على المبنى، شاهدا على التغيرات السياسية والأوضاع في تلك الحقبة، ومكانا مميزا يروي ويستعرض الحقائق التاريخية ومختلف الأحداث المتعاقبة على البلاد.
وجرى تشييد القوس الذي يبلغ طوله 49.5 متر، وعرض 45 مترا وعمق 22 مترا، بأمر من نابليون الأول، تمجيدا وتخليدا لانتصارات الجيش الفرنسي.
وتواصلت أعمال البناء لعقود، لكن بشكل متقطع، فلقد بدأت عام 1806، غير أنها توقفت 9 سنوات بعد ذلك، وتحديدا إثر عودة "آل بوربون" (عائلة ملكية أوروبية) إلى فرنسا.
ولم تستأنف أعمال البناء إلا في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، بأمر من الملك لويس فيليب، قبل أن يتم الانتهاء منها عام 1936.
ونظرا لتقطع أعمال التشييد وطول فترتها، تعاقب على مشروع بناء القوس 3 مهندسين معماريين، هم "جان شالجرين" من 1806 إلى 1811، ثم "إل جوست"، من 1800 إلى 1814، وأخيرا "جولام أبيل بلو" الذي اشتغل على المشروع من 1833 إلى 1836.
وعلاوة على واجهته المميزة واللافتة، يضم المبنى في داخله متحفا يستعرض تاريخ القوس، ليستكمل بذلك الزائر مراحل جولته بالمعلم التاريخي.
ويمكن للزائر أيضا أن يصعد إلى قمة القوس، حيث بوسعه الظفر بمشهد رائع من السطح، لكن لفعل ذلك عليه أن يصعد 284 درجة (أو 46 في حال اختار المصعد).
معلم أثري يعتبر "أكبر قوس نصر في العالم، حيث يمكن رؤيته من كل ناحية تقريبا من ضواحي العاصمة الفرنسية"، وفق كاتب فرنسي أصدر كتيبا عام 1900 عن باريس وضواحيها.
لكن، وبغض النظر عن الحجم الفيزيائي للمبنى، إلا أن الثابت هو أنه يعتبر من أشهر المعالم ليس في عاصمة الأنوار فقط، وإنما في العالم بأسره، وتخريبه يضيف إلى رصيد الإنسانية الحافل بالانتهاكات الصادمة ضد الآثار، من سوريا إلى العراق إلى تمبكتو في مالي، فصلا قاتما آخر يثقل مجلد البشرية بآثام الغضب والشغب.