"ناشونال جيوجرافيك" تجيب: كيف يسرق ناهبو المقابر تاريخ مصر؟
أعدت "ناشيونال جيوغرافيك" تحقيقاً مميزاً عن تجارة الآثار المسروقة في العالم، "العين" تترجم لقرائها مقاطع تعنى تحديداً بالآثار المصرية.
منذ حوالي 2600 سنة حنّط بعض القدماء المصريون السيدة النبيلة «شيسيب أمون تايشير» ثم واروها الثرى في تابوت حجري لترقد في سلام سنوات مديدة، إلا أن هذه السيدة لم تكن تعرف أن هذه ليست النهاية، بل إنها بداية رحلتها جوًا إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
«أمون».. هذا هو الاسم المختصر لهذه السيدة الذي سنستخدمه أثناء عرضنا لرحلة التابوت المثيرة والتي انتهت نهاية سعيدة، ولكننا سنتطرق أيضًا إلى تجارة الآثار والقطع الأثرية التي تزدهر حول العالم، وذلك في استعراض للتقرير الذي أعده "توم مولر" لمجلة «ناشونال جيوجرافيك».
تعرّض التابوت للنهب على يد مجموعة من اللصوص قطعوه إلى أربع قطع وشحنوه عبر البريد الجوي إلى الولايات المتحدة حيث تمكن أحد مرممي الآثار من إعادة جمعه، وبعد أشهر من هذه الواقعة اكتشفه موظفو الجمارك مخبّأ في منزل تاجر للآثار في بروكلين، ليذهب بعد ذلك إلى مستودع في موقع سري في مدينة نيويورك حيث تحتجز السلطات الفيدرالية قطعًا أثرية من حول العالم.
مثل أغلب الأنشطة غير القانونية، فالتقدير الكمّي لعمليات النهب أمر صعب، ولكن صور الأقمار الصناعية ومصادرات الشرطة وتقارير الشهود في هذا المجال تشير جميعها إلى أن التجارة في الكنوز المسروقة تزدهر في جميع أنحاء العالم.
«سارة باركاك» عالمة مصريات أمريكية حالفها الحظ في فحص التابوت الحجري الداخلي لأمون، وتُعد باركاك رائدة في استخدام صور الأقمار الصناعية لقياس حجم عمليات النهب والأضرار الناتجة عن انتهاك المواقع الأثرية.
إلا أن أبحاث باركاك تسلط الضوء على حقيقة قاتمة وهي أن ربع المناطق الأثرية المعروفة في مصر والتي يبلغ عددها 1100 منطقة وقعت ضحية الدمار الشديد، وتؤمن باركاك أنه مع استمرار المعدل الحالي للدمار ستتعرض جميع المواقع المعروفة في مصر لخطر بالغ بحلول 2040.
خلال العقدين الماضيين كشفت مجموعة من القضايا المعروضة أمام المحاكم وإعادة الآثار إلى أوطانها عن الجانب المظلم لتجارة الآثار، مسلطة الضوء على شبكة إجرامية من منقبي الآثار ومهربيها الذين يبيعون القطع الأثرية المنهوبة إلى صالات عرض شارع ماديسون والمتاحف الشهيرة.
الجدال حول الطريقة المناسبة لوقف عمليات النهب وصل إلى طريق مسدود، فهناك فريقان يقفان في مواجهة بعضها البعض، الفريق الأول يتكون من علماء الآثار الذين يلقون باللوم على تجارة الآثار بشأن عمليات النهب، زاعمين أن العديد من القطع الأثرية الموجودة في السوق مسروقة.
وفي المقابل، يقول الفريق الثاني المكون من جامعي الآثار وتجارها والعديد من أمناء المتاحف إن أغلب مبيعات الآثار قانونية، بل يرى بعضهم أن الهدف النهائي المتمثل في الحفاظ على التراث الفني البشري يجبرهم على "حماية" الآثار من الدول غير المستقرة، حتى لو كان هذا يعني شراءها من اللصوص.
وفي ظل هذا الجدال المستمر، ومن خلال جمع الأدلة من علماء المصريات وأمناء المتاحف والعملاء الفيدراليين، تتبع "مولر" مجددًا رحلة "أمون" من مقبرتها في مصر مرورًا بشبكة معقدة من مهربي الآثار ومتداوليها وتجارها وانتهاء بالمستودع الذي يقع تحت إجراءات أمنية مشددة في مدينة نيويورك.
تكمن الخطوة الأولى في تحديد المقبرة المحتملة لأمون، واستنادًا إلى الهيروغليفية الموجودة على التابوت والأسلوب الفني، خلص علماء المصريات في جامعة بنسلفانيا إلى أنها عاشت عام 600 قبل الميلاد تقريبًا.
وبالبحث في كتب التوابيت المصرية ومواقع الآثار نجد أن هناك تابوتا حجريا مماثلا لسيدة تحمل اسما مماثلا لاسم "أمون" الاستثنائي، وبحسب التقارير وجدت في قرية أبو صير الملق في محافظة بني سويف.
تبدو أبو صير اليوم كساحة قتال وقعت ضحية القنابل مؤخرًا، فيمكنك أن ترى آثار الحفر الناتجة عن تنقيب اللصوص عن الآثار مستخدمين المعاول والجرافات والديناميت، منتهكين بذلك قبورا لا تعد ولا تحصى.
"التنقيب عن الآثار".. مهنة عريقة
زادت عمليات النهب بعد ثورة 2011، ولكن تحليل باركاك لصور الأقمار الصناعية يشير إلى أن صعودًا كبيرًا في هذه العمليات حدث بالفعل قبل عامين من الثورة، وذلك عندما ضربت الأزمة المالية العالمية الاقتصاد المصري، وأدت إلى زيادة أسعار الغذاء والغاز وارتفاع معدلات البطالة، وبدأ بعض العاطلين في المشاركة في عمليات النهب سعيًا نحو قوت يومهم.
إلا أن التنقيب عن الماضي للحصول على المكاسب كان مهنة منذ آلاف السنوات، فأقدم محاكمة معروفة للصوص الآثار في مصر كانت في مدينة طيبة عام 1113 قبل الميلاد، عندما نهب عصابة من اللصوص مجموعة من المقابر، وتم إدانتهم وربما إعدامهم باستخدام الخوازيق.
كما لم تسلم الآثار المصرية من يد الجيوش الغازية، فالغزاة الرومان حملوا مسلات كاملة إلى بلادهم في سفن بنيت خصيصًا لهذا الغرض.
وفي الفترة ما بين القرن السادس عشر وحتى منتصف القرن العشرين، عندما هيمنت قوى أجنبية على مصر، أُرسلت قطع لا تعد ولا تحصى من الماضي المصري إلى مراكز ثقافية في الخارج في هيئة هدايا وعبر التجارة وبالإكراه.
ميليشيا شخصيات هامة
على بعد 20 ميل شمال "أبو صير" التقي "مولر" مدير آثار منطقتي دهشور واللشت "محمد يوسف"، وفي الأشهر التي تلت ثورة 2011 وتميزت بالفوضى، نهبت عصابات من اللصوص المنطقتين، مستخدمين في بعض الأوقات الجرافات للحفر ليلًا تحت الأضواء الكاشفة.
يقول يوسف إن بعض الشخصيات المحلية المهمة تلعب دورًا رئيسيًا في اللشت ودهشور، وهناك شخصيات واسعة الصيت متورطة في عمليات النهب، وهم شخصيات غنية لا يمكن المساس بها، مشيرًا إلى أن إحدى العائلات التي تعيش في قرية مجاورة تقود ميليشيا خاصة كبيرة.
الأقوى يفرض السيطرة في المناطق المضطربة، وخاصة في أوقات الحروب، يقول "مولر" إن تنظيم "داعش" يحصل على نسبة من مكاسب النهب في سوريا الآن، ولكن تحصل أيضًا جماعات تابعة لجيوش الرئيس بشار الأسد، ووحدات حماية الشعب الكردية، والمعارضة على نسب.
شبكات النهب.. 4 طبقات
يوضح اللواء أحمد عبد الظاهر مدير مباحث الآثار، أن هيكلة العديد من شبكات النهب في مصر تشبه الأهرامات المكونة من أربع طبقات.
تتكون القاعدة –التي تضم ما قد يصل إلى ثلاثة أرباع القوى العاملة – من القرويين الفقراء الذين تكون معرفتهم بالتضاريس المحلية والآثار ضرورية للعثور على المسروقات.
أما الطبقة الثانية فهم الوسطاء الذين يجمعون الأشياء من المنقّبين المحليين وينظمون العمال في فرق، بينما لاعبو الطبقة الثالثة يُهربون الآثار خارج البلاد ويبيعونها في نهاية المطاف إلى مشتريين أجانب وهم القابعون في قمة هرم النهب.
وبحسب التقاريرـ يعيد بعض من ناهبي الطبقة الثانية بيع المسروقات بعشرة أضعاف الثمن الذي يدفعونه للمنقبين، ويقول عبدالظاهر إنهم مجرمون محترفون والقطع الأثرية هي واحدة من الأشياء التي يتعاملون معها، مشيرًا إلى العديد من المداهمات على مهربي المخدرات التي تجد فيها الشرطة القطع الأثرية إلى جانب المخدرات.
دمياط.. طريق "أمون" إلى دبي
ومن بين 50 ميناء ومطارا وطريقا بريا مستخدما لتهريب الآثار خارج مصر، اختار "مولر" زيارة دمياط، فتوابيت "أمون" شحنت إلى الولايات المتحدة من دبي، وكانت مخبأة في حاوية محملة بالأثاث.
دمياط واحدة من أكثر موانئ الحاويات ازدحامًا في مصر، ولها تجارة رائجة مع دبي، كما أنها عاصمة الأثاث حيث يشتري المتزوجون حديثًا أثاثهم من هناك، ومؤخرًا احتجز مسئولو الموانئ العديد من حاويات شحن الأثاث وبداخلها آثار غير مشروعة.
"أمون" بين أيادي 4 شخصيات
بمجرد وصول "أمون" إلى دبي، يصبح دربها أكثر وضوحًا، واستنادًا إلى رسائل البريد الإلكتروني والبيانات الجمركية وقوائم الشحن والنيابة العامة والمحققين الفيدراليين تشير المزاعم إلى تورط ثلاثة رجال في إرسالها من دبي إلى الولايات المتحدة.
أولئك الرجال الثلاثة هم "موسى الخولي" تاجر آثار سوري المولد ويقيم في مدينة نيويورك، و"سالم الشديفات" مواطن أردني يقيم في ميتشجان، و"أيمن رمضان" أردني مقيم في دبي.
في نهاية المطاف، اعترف الخولي بالتهريب وتقديم إفادات مزيفة إلى عميل فيدرالي، وعوقب بالحبس المنزلي لمدة ستة أشهر، بينما عوقب الشديفات ودفع غرامة قيمتها ألف دولار، أما رمضان فيظل هاربًا.
بحسب الوثائق الناتجة عن التقاضي، أرسل الشديفات لقطات فوتوغرافية لتابوت "أمون" إلى الخولي، وشحن رمضان وأطراف آخرون في العملية القطع الأثرية إلى الخولي وتاجر عملات في ولاية كونيتيكت، مع وصف مضلل للمحتويات والقيمة.
وبعد ذلك، استخدام الخولي هذه اللقطات لإعادة بيع التابوت الحجري إلى هاوي جمع آثار في ولاية فرجينيا، ولكن تزعم الإدارة الأمريكية للهجرة والجمارك أن رمضان تاجر في آثار منهوبة من سوريا والأردن وليبيا، كما تشير رسائل بريد إلكتروني بين الشدايفات وعملاء محتملين إلى معرفته المباشرة بعملية النهب في مصر.
حسب ملاحظة "برينتون إيستر" العميل الخاص في إدارة الهجرة والجمارك وشارك في التحقيق في قضية "أمون"، فإن شبكات النهب الدولية تتعاون مع بعضها البعض بطريقة أكثر نجاحًا من تعاون مسئولي إنفاذ القانون مع بعضهم البعض.
كما يشير إيستر إلى أن الحاوية التي حملت التابوت الحجري الخارجي لأمون إلى الولايات المتحدة شحنتها شركة "أمل ستار للأنتيكات"، ومقرها دبي ويمتلكها "نور الشام" من عائلة الشام وهم تجار للقطع الأثرية مقرهم في مدينة مومباي الهندية.
وعلى عكس البضائع غير المشروعة مثل المخدرات والأسلحة، فتجارة القطع الأثرية المنهوبة تبدأ قذرة ولكنها تنتهي نظيفة على الأقل ظاهريًا، فيتم غسيل أصولها غير القانونية بالمرور عبر شبكات التهريب.
باع الخولي "أمون" إلى هاوي جمع القطع الاثرية "جوزيف لويس" الذي يعيش في ولاية فرجينيا، وفي مايو 2011 واجه مع الخولي وآخرين تهمًا تضمنت التآمر للتهريب والتآمر لغسيل الأموال.
وبعد حوالي ثلاث سنوات من التقاضي المكثف، حصل على اتفاقية مقاضاة مؤجلة، وإسقاط جميع التهم في نهاية المطاف. من جانبه، ينفي لويس مشاركته في جميع الأفعال غير المشروعة، قائلًا إنه اشترى القطع في الولايات المتحدة من تاجر تولى عملية استيرادها.
بينما قد تحمي تجارة الآثار العديد من الروائع الأثرية من الدمار، إلا أن الرمادية التي تعمل من خلالها هذه التجارة تجعلها معرضة لاتهامات بأنها تؤدي إلى عمليات النهب، ويبدو أنها تشجع بعض المشاركين في هذه التجارة على خداع أنفسهم بشأن أماكن قدوم أشيائهم العزيزة.
يقول لويس إنه لا يفضل الحديث عن قضية "أمون"، ولكنه يشرح أنه اشترى مجموعة توابيتها بعد أن وفّر التاجر موسى الخولي معلومات عن مصدرها تبدو جديرة بالتصديق، فقد زعم الخولي أن توابيت "أمون" من مجموعة والده الأثرية.
"أمون" تعود إلى بلادها في سلام
في 23 أبريل 2015، عادت "أمون" مجددًا إلى مصر، وتُعرض الآن في المتحف المصري بالقاهرة.
ومن جانبهم، يطالب بعض أمناء المتاحف وجامعي الآثار مثل لويس بإنشاء قاعدة بيانات للقطع الأثرية للمساعدة في تثبيط عمليات النهب، ويقترحون إجراء مقابلات مع علماء الآثار للبحث عن أرضية مشتركة.
تقول باركاك إن إيجاد هذه الأرضية المشتركة أمر مهم، في دول المصدر والدول المستهلكة على حد سواء.
على الأرجح، ستستمر عمليات النهب حتى يؤمن المنقبون في مصر والمشترون في الخارج بأن القطع الأثرية ليست مقتنيات رائعة فقط، وإنما ممرات حيوية في سرد ماضينا.