انتبهنا بعد هزيمة ثانية، أن البندقية تحتاج إلى من يوجهها أو أنها «تحتاج إلى إصبع» على ما قال مظفر النواب
مع صعود المقاومة الفلسطينية، غنّت أم كلثوم قصيدة نزار قباني «أصبح عندي الآن بندقية» ورددتها معها أجيال من الشبان العرب الذين آمنوا أن «إلى فلسطين طريق واحد يمرّ من فوهة بندقية» على ما تقول لازمة الأغنية التي كان كررها كورس من الأصوات الجهيرة.
انتبهنا بعد هزيمة ثانية، أن البندقية تحتاج إلى من يوجهها أو أنها «تحتاج إلى إصبع» على ما قال مظفر النواب في قصيدته الموجهة إلى فيروز تعقيباً على أغنيتها عن القدس. كما انتبهنا متأخرين إلى التشابه الكبير بين فكرة الطريق الذي يمر من فوهة بندقية وبين مقولة ماو تسي تونغ الشائعة في تلك الحقبة عن أن «السلطة تنبع من فوهة البندقية»، وهي مقولة استُغلت أوسع استغلال لتشريع أنظمة الديكتاتوريات العسكرية العربية على مختلف مشاربها.
حلت فلسطين كـ «أنا أعلى» بدلاً من رجس السعي إلى السلطة. ويسع قارئ أدبيات الأنظمة العربية وخطبائها ومداحيها منذ خمسينات القرن الماضي وضع كلمة «سلطة» كلما صادف كلمة «فلسطين» من دون أن يتغير شيء في مضمون الكلام. فالهدف فلسطين والسلطة اضطرار لبلوغه. ولا بد من سلوك طرق التفافية طويلة، يمرّ بعضها عبر جونيه في لبنان وبعضها الآخر عبر ادلب وحلب والحسكة في سورية – على ما قال أخيراً واحد من سدنة معبد «الطريق إلى فلسطين»- للوصول إلى تلك الأرض الموعودة.
وبعد حوالي السبعين عاماً من النكبة وخمسين عاماً من كارثة 1967، ما زال الطريق إلى فلسطين غامض المعالم في غير أذهان أصحاب نظرية البندقية والسلطة. وما من مبالغة في القول إن درجة عالية من التجريد أسبغت على القضية الفلسطينية على نحو يجعلها أقرب إلى المفاهيم الفلسفية والغيبية منها إلى القضية السياسية الملموسة التي تنتمي هي وأصحابها إلى هذا العالم.
الصنف هذا من التجريد، وعلى غرار كل تجريد، يضع القضية في موقع يستحيل الوصول إليه والتعامل معه كواقع وكمعطى موضوعي ليحيلها مفهوماً متعالياً مستقلاً بذاته ولا قدرة لبشر أو لنظر على بلوغه. وهو بالضبط ما يريده تجار الطريق والباعة الجائلون على أطرافه عارضين بضائعهم من شهادات حسن سلوك وبطاقات سفر لآلاف الشبان إلى محارق الحروب الأهلية والطائفية.
وحدث أن التهبت كل الساحات والبنادق واقتتل أبناء المذاهب والقوميات والعشائر، لأسباب قد نتفق أو نختلف على فهمها وتشخيصها وتحمل المسؤولية عنها، ومنيت المجتمعات العربية بأضرار غير قابلة للإصلاح، لكن هذا لم يحل من دون الاستمرار في استخدام فلسطين مطية لكل راغب في سلطة.
أما القضية الفلسطينية فقابعة أمام عيوننا يتآكلها الانقسام الداخلي الذي باتت له ذكرى واحتفالات وإمارات تزعم الاستقلال والسيادة، ويمزقها الاستيطان الإسرائيلي والصراعات بين رفاق الدرب والسلاح. مع ذلك، هناك من يصدق أن رطانته وتقريعه خصومه على إضاعتهم الطريق ووضعه «القضية» في الموقع المركزي والأخلاقي الأسمى يمكن أن يُعمي عن حالة الفصام بين اعتبار فلسطين مفهوماً مجرداً وسلعة للبيع والمقايضة وبين الفلسطينيين كأناس من لحم ودم يعانون الأمرين من السائرين على طريق بلدهم.
يدعو إلى السخرية ذاك الفهم المبتذل والبذيء الذي يريد الفصل بين مصائر الشعوب العربية في مصائبها الحالية وبين المقدمات التي أوصلتنا إلى هنا، ومنها سلوك الحكومات العربية منذ سبعين عاماً وأزيَد، ومن نماذجه تلمّس طريق فلسطين في حلب.
نقلاً عن صحيفة "الحياة" اللندنية
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة