فى الثالث والعشرون من يونيو الجارى «أشرقت الشمس» على بريطانيا على حد تعبير زعيم حزب استقلال بريطانيا
فى الثالث والعشرون من يونيو الجارى «أشرقت الشمس» على بريطانيا على حد تعبير زعيم حزب استقلال بريطانيا، وغابت عن الاتحاد الأوروبى، حيث صوت 52% من البريطانيين لصالح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى فى استفتاء بريكسيت التاريخى، الذى شارك فيه72% ممن لهم حق التصويت.ويثير هذا تساؤلات عدة حول التداعيات الاستراتيجية والاقتصادية للقرار، ويبرز هناعدة نقاط:
أولاها يتعلق بالداخل البريطانى الذى سيتأثر سياسياً واقتصادياً على نحو واضح. فقد عكس الاستفتاء انقساماً ليس من السهل تجاوزه داخل المجتمع البريطانى بين ذوى الحس القومى الذين يحلمون بعودة المجد الامبراطورى البريطانى، وبين الرأسماليات الكبرى والمستفيدين منها الذين يرون مصالحهم فى بقاء بريطانيا ضمن الاتحاد الأورويى، فالاستفتاء أشبه بصرخة من المواطن العادى فى وجه الرأسمالية التى تعمل فقط لتعظيم منافعها الخاصة. وفى أول رد فعل أعلن رئيس الوزراء البريطانى استقالته ودعا إلى اختيار زعيم جديد يقود عملية الانسحاب من الاتحاد الأوروبى فى مؤتمر حزب المحافظين المقرر أكتوبر المقبل، وينذر هذا بتغييرات مهمة فى السياسة البريطانية على الصعيدين الداخلى والخارجى. كما يثير مخاوف جادة من أن يؤدى إلى استقلال أسكتلندا وإيرلندا اللتان صوتتا لصالح البقاء فى الاتحاد الأوروبى.
أما اقتصادياً، فقد شهدت أسواق المال الأوروبية والأمريكية هزة واضحة نتيجة حالة عدم اليقين المصاحبة للانسحاب البريطانى، وسيزيد ذلك من الصعوبات الاقتصادية التى يواجهها الاتحاد الأوروبى، وله أيضاً تداعيات على الاقتصاد البريطانى رغم تأكيد محافظ بنك بريطانيا على استعداد بلاده لمواجهة التداعيات الاقتصادية المحتملة وضخ السيولة اللازمة بالاسترلينى والعملات الصعبة لضبط الوضع. فقد هبط الجنيه الاسترلينى عقب إعلان نتائج الاستفتاء بنسبة 10% ليصل إلى أدنى مستوى له منذ ثلاثين عاماً، ويتوقع عدد من الخبراء الاقتصاديين أن تعانى بريطانيا الركود وارتفاع مستوى التضخم، وانخفاض معدل النمو بنسبة 6.3%.
ولا تقل التداعيات المحتملة على الكيان الأوروبى عن تلك المتوقعة على الداخل البريطانى، فقد مثلت نتائج الاستفتاء دفعة قوية للتيارات اليمينية فى أوروبا، وأشادت زعيمة حزب الجبهة الوطنية اليمينى الفرنسى، مارين لوبان، بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى ووصفته بأنه «انتصار للحرية»، ودعت إلى إجراء استفتاءات مماثلة فى فرنسا ودول الاتحاد الأخرى، وتلاقى هذه الدعوة ترحيباً من تيارات ورموز سياسية فى هولندا والنمسا وإيطاليا وأسبانيا. الأمر الذى يهدد الكيان الأوروبى خاصة مع تصاعد المشكلات الاقتصادية والأمنية داخله،وقد ينتهى الأمر إلى انفراط العقد الأوروبى، أو على الأقل إضعاف دور الاتحاد الأوروبى دولياً وإقليمياً . وتدرك القيادات الأوروبية خطورة مثل هذه الدعوات على الاتحاد الأوروبى، فقد وصفت المستشارة الألمانية الانسحاب البريطانى بأنه «ضربة موجهة لأوروبا» ولمشروع الاتحاد الأوروبى، وأنه سيزيد الاتحاد انقساماً. ورأى الرئيس الفرنسى أن انسحاب بريطانيا «خيار مؤلم» وصعب للأوربيين، وأنه «وضع أوروبا فى مواجهة تحد خطير»، وأبدى تخوفاً من إمكانية تفكك أوروبا، ورأى إنه يجب على أوروبا أن تراجع نفسها حتى تحافظ على وحدتها. وفى هذا السياق قد يدفع خروج بريطانيا الاتحاد الأوروبى إلى التشدد فى قضايا الهجرة، وكذلك فى التعامل مع تركيا واستبعاد فكرة انضمام الأخيرة له، باعتبار أن ذلك كان من أبرز القضايا التى استند عليها تيار انسحاب بريطانيا.
كما قد يؤثر أيضاً على علاقة الاتحاد الأوروبى مع روسيا، ومن المعروف أن بروكسل قامت بتمديد العقوبات الأوروبية المفروضة على روسياعلى خلفية الأزمة الأوكرانية، انصياعاً للضغوط الأمريكية، وذلك رغم تعالى الأصوات المطالبة بضرورة تحسين العلاقات مع روسيا نتيجة الأضرار التى لحقت باقتصادات عدد من الدول الأوروبيةبسبب العقوبات الجوابية التى فرضتها موسكو على أوروبا والتى تضمنت حظر استيراد المواد الغذائية والمنتجات الزراعية من الدول التى انخرطت فى العقوبات ضدها،وقدرتها وزارة التنمية الاقتصادية الروسية بنحو 100 مليار دولار خسائر للاتحاد الأوروبى مقابل ما بين 20 و25 مليار دولار خسائر لروسيا. ويأتى فى مقدمة هذه الدول اليونان وإيطاليا، كما صوتت الجمعية الوطنية الفرنسية (البرلمان الفرنسي) فى أبريل الماضى لصالح مشروع قرار يقضى بإلغاء العقوبات الأوروبية المفروضة ضد روسيا.
ولعل أحد أبرز التداعيات يتعلق بدور بريطانيا الدولى والذى يتجه نحو استقلالية سياسية أكبر فى مواجهة الغرب، وتقارب اقتصادى أكثر نحو الشرق حيث كان استعادة استقلالية القرار البريطانى وإعادة بناء بريطانيا العظمى مطلباً وشعاراً لدعاة الانسحاب، ويرتبط هذا بمحاولة استعادة بريطانيا لدورها كفاعل دولى مؤثر، ولهذا تداعيات محتملة على العلاقات البريطانية الأمريكية خاصة إذا حاولت بريطانيا استعادة دورها الذى تنازلت عنه للولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، وقد يعظم هذا من دورها فى منطقة الشرق الأوسط وغيرها ليس بالضرورة على نحو تنافسى مع واشنطن ولكنها ستكون على الأقل شريكا وليس تابعا للأخيرة، وسيتعزز هذا الطرح إذا وصل ترامب للسلطة فى الولايات المتحدة باعتباره كان من مؤيدى انسحاب بريطانيا، وكذلك حال تنفيذ تهديدات أوباما بتراجع المعاملة التفضيلية لبريطانيا فى التجارة نتيجة إنسحابها من الاتحاد.فى المقابل يمنح الانسحاب الحرية كاملة لبريطانيا فى إقامة شراكات واتفاقات تجارية واقتصادية مع الاقتصادات الصاعدة خاصة الصين والهند، وكان ذلك أحد حجج دعاة الاستقلال.
أما عن العلاقات البريطانية المصرية فإن التداعيات الاقتصادية للانسحاب وحالة عدم اليقين المرتبطة به ستفرض مزيدا من الضغوط الاقتصادية على مصر، ويمثل هذا تحدياً، خاصة وأن الفرص التى يمكن استغلالها نتيجة تحرر بريطانيا من القيود الأوروبية لن تكون ممكنة إلا مع اتمام الانسحاب البريطانى وتوقيع الاتفاقات الخاصة بذلك بين الجانبين وهو ما قد يستغرق عامين.
إن الانسحاب البريطانى من الاتحاد الأوروبى أحد التغيرات الحادة التى تجتاح العالم وستغير حتماً من خريطة التحالفات وتوازنات القوى فى المنطقة، وعلى الصعيد الدولى، ومن المهم قراءة التحديات والفرص التى يتيحها والتعاطى معها بفاعلية.
نقلًا عن جريدة الأهرام
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة