في السعودية لدينا نقص أو بؤس في الأرقام الكلية، فللأسف لا يوجد لدينا قياس ربعي للناتج المحلي الإجمالي لنحكم على درجة ركود الاقتصاد
يعرف الناتج المحلي الإجمالي GDP بأنه قيمة ما ينتج في الاقتصاد من سلع وخدمات خلال سنة واحدة، أي أنه عدد المنتجات من سلع وخدمات مضروبة في أسعارها، وقد يكون ارتفاع الناتج عائداً فقط لارتفاع الأسعار (أي ارتفاع غير حقيقي)، ولذا يتم استخدام مخفض الناتج المحلي للحصول على القيمة الحقيقية للناتج بعد استبعاد أثر التضخم وزيادة الأسعار.
بدوره يعرف الركود الاقتصادي بأنه انخفاض في معدل نمو الناتج المحلي في ربعين متتاليين (أي انخفاض نمو الناتج المحلي ستة أشهر متصلة)، كما يجنح البعض إلى قياسه بمؤشر ثقة المستهلكين، وهو المؤشر الذي يقيس انطباعات وتوقعات وتفاؤل أو تشاؤم المستهلكين حول الوضع الاقتصادي للبلد، فيزيد أو يخفض المواطن إنفاقه الاستهلاكي تبعاً لتوقعاته بأداء الاقتصاد وتوجهاته في المستقبل.
والركود مرحلة من مراحل الدورة الاقتصادية تعقب الازدهار أو النمو الاقتصادي الجيد، وعلى رغم كونه سيئاً في عمومه إلا أن الإيجابية الوحيدة للركود تأتي من كونه يخفض الأسعار وينقص معدلات التضخم، قبل أن يعرف العالم في تسعينات القرن الماضي ظاهرة الركود التضخمي، أي ركود في النشاط الاقتصادي مصحوباً بزيادة في أسعار السلع والخدمات وزيادة معدلات البطالة، وهي الظاهرة التي ما زالت مثار جدل الاقتصاديين من دون أن يصل أي منهم إلى تفسير مقنع لسبب حدوثها.
في السعودية لدينا نقص أو بؤس في الأرقام الكلية، فللأسف لا يوجد لدينا قياس ربعي للناتج المحلي الإجمالي لنحكم على درجة ركود الاقتصاد، كما لا يوجد لدينا مؤشر لثقة المستهلك يقيس توقعاته ومعدل تفاؤله، ومن ثم إنفاقه بالزيادة أو النقص تبعاً لرؤيته للوضع الاقتصادي الذي يعايشه يومياً. ولكن حتى مع غياب هذين المؤشرين فإن هناك مؤشرات أخرى يمكن الاستدلال بها، وهذه المؤشرات قد تكون سبباً للركود وقد تكون أيضاً نتيجة له، ومنها انخفاض الإنفاق الحكومي بنوعيه الجاري أو الرأسمالي (الاستثماري)، وانخفاض استثمارات القطاع الخاص، وارتفاع كلفة الحصول على السيولة نتيجة ارتفاع سعر الفائدة. وهذه المؤشرات كلها سلبية عندنا، فالإنفاق الحكومي الاستثماري حالياً قريب من الصفر، والجاري لا يتعدى رواتب الموظفين الأساسية، والإنفاق الخاص ليس جيداً بدليل أن كثير من الشركات الكبرى منعت التوظيف وبعضها استغنى عن بعض الموظفين، وشركات كبرى لم تدفع رواتب موظفيها لأشهر تجاوزت الثلاثة والستة، وسعر الفائدة بين المصارف «السايبر» جاوز 2 في المئة بعد أن كان لا يصل إلى نصف وثلاثة أرباع في المئة قبل عام أو عامين، وهو ما زاد كلفة الاقتراض على المواطن. عوامل أخرى مصاحبة للركود يمكن ملاحظتها في المملكة، ومنها انخفاض مبيعات العقارات وانخفاض أسعارها بدرجات جيدة، وانخفاض مبيعات السلع المعمرة مثل السيارات التي انخفضت مبيعات الجديد منها بدرجات ملحوظة، وكذلك انخفاض مبيعات أجهزة الحواسيب والجوالات بدرجة كبيرة أدت إلى فقد شركة جرير 25 في المئة من أرباحها مقارنة بالفترة المقابلة من العام الماضي (بحسب إعلان الشركة على «تداول»). يضاف إلى ذلك تقشف الناس في الكماليات ومنها السفر للخارج، إذ تنازلت بعض الأسر عن إجازاتها التي اعتادت على قضائها في الخارج في سنوات الانتعاش والوفرة، وكذلك فقد مؤشر السوق المالية (تاسي) لـ28 في المئة من قيمته خلال الأشهر الستة الأولى من العام مقارنة بالفترة المماثلة من 2015 (فقد 2,587 نقطة، وانخفضت القيمة الإجمالية للأسهم المتداولة بنسبة 34 في المئة مقارنة بالنصف الأول من العام الماضي) («الحياة» ٣ يوليو/ تموز ٢٠١٦).
بالطبع فإن الركود كحال اقتصادية ينشأ من انخفاض جانب الطلب الكلي الناتج عن قلة السيولة وشحها في أيدي الناس، وهي حال ملموسة وملاحظة من إحجام الناس عن استهلاك سلع وخدمات كانوا يطلبونها وقت الانتعاش وزيادة السيولة في أيديهم خلال السنوات العشر الماضية.
يأتي الآن السؤال المهم، وهو كيف يتم علاج الركود أو على الأقل كيف يمكن التقليل من آثاره السيئة على الاقتصاد؟ الإجابة البديهية هي باستخدام السياستين المالية والنقدية، ويكون التدخل عن طريق السياسة المالية بزيادة الإنفاق الحكومي وتقليل معدل الضريبة، و لكن للأسف لا يمكن اليوم زيادة الإنفاق الحكومي لأن عوائد الحكومة انخفضت بما يصل إلى 50 في المئة والحكومة نفسها اقترضت لسد عجز موازنتها، كما أنه ليس لدينا ضرائب لنخفضها. كما أن ربط الريال بالدولار يحجم قدرة «ساما» على التدخل باستخدام سياسة نقدية فاعلة، فلا هي تستطيع طبع وزيادة المعروض النقدي، ولا يمكنها خفض سعر الفائدة الذي يجب أن يتقارب مع نظيره في السوق الأميركية.
الخيار الوحيد المتاح أمامنا هو جودة الإدارة، فليس مهماً أن يتنازل الناس عن استهلاك الكماليات، ومن الجيد أن تواصل الأسعار الانخفاض سيما في قطاع العقارات والسلع والخدمات الأخرى المتضخمة أسعارها بلا مبرر، وممتاز أن يتناقص ضخ العمالة الأجنبية للأموال للخارج. ولكن المهم أن لا يفقد مواطن سعودي عمله، وألا يتوقف مشروع رأسمالي في منتصف مرحلة إنجازه، كما أن على وزارة العمل دوراً كبيراً في تمكين المواطن من الوظيفة وقصر الاستقدام في حالاته الدنيا، وإذا ما توظف السعوديون واكتملت مشاريع البنية التحتية فلن يتأثر اقتصادنا كثيراً بمرحلة الركود الحالية، فهي دورة اقتصادية لا يمكننا منعها بأي حال، ولكن نستطيع تحجيم آثارها في الحدود الدنيا.
المقال نقلاً عن صحيفة "الحياة" اللندنية
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة